بعد أن قبلت مصر في 8 يونيو 1967 وقف إطلاق النار دون شروط، انتقلت القضية إلى الساحة الدبلوماسية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة الجمعية العامة ومجلس الأمن. وقد بدأت العملية الدبلوماسية لترتيبات ما بعد الحرب بالدورة الطارئة الخاصة بالجمعية العامة للأمم المتحدة (17 يونيو 1967 ــ يوليو 1976) وفي 13 يونيو 1967، طلب الاتحاد السوفيتي عقد دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وحصل السكرتير العام على موافقة 62 دولة على عقد هذه الدورة التي بدأت أعمالها في 17 يونيو 1967، وبذلك تصبح هذه الدورة هي الخامسة من نوعها التي تعقدها الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذه الدورة الطارئة تحتل مكانا بارزا في تاريخ المنظمة الدولية من عدة زوايا، فربما للمرة الأولى تعجز المنظمة الدولية في جمعيتها العامة، عن إدانة عدوان تعرضت له إحدى الدول الأعضاء، بل يراد منها أن تربط بين العدوان وتصفيته وبين مكاسب يحققها المعتدي على حساب المعتدى عليه وبذلك تقرر مبدأ خطيرا في العلاقات الدولية.
ورغم ما يعرف عن حدة المناورات التي تجري وراء الدهاليز في اجتماعات المنظمة الدولية، فإنها ربما لم تشهد مثل ما شهدته.. هذه الدورة من أساليب الضغط والترغيب ولي الذراع مارستها دولة كبرى كالولايات المتحدة لترغم دولا على أن تمالئ العدوان وتمتنع عن إدانته.
وسوف نعرض لأهم مشروعات القرارات التي قدمت في هذه الدورة وإلى نتائج التصويت عليها، لكي نخرج بالدلالات التي تعنيها مواقف الدول والمجموعات المختلفة، والعوامل التي حركتها لتتخذ هذه المواقف.
فرغم تعدد مشروعات القرارات التي قدمت إلى هذه الدورة فإن أبرزها كانا مشروعي القرارين اللذين تقدمت بأحدهما دول عدم الانحياز، وتقدمت بالآخر مجموعة دول أمريكا اللاتينية.
فبعد أن لاحظ مشروع قرار دول عدم الانحياز «أن الجمعية العامة قد ناقشت الموقف الخطير، في الشرق الأوسط ولاحظت أن قوات إسرائيل تحتل أراضي عربية» قرر أن «يدعو اسرائيل فورا إلى سحب كل قواتها إلى ما وراء خطوط الهدنة القائمة بمقتضى اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية». وقد وافقت 53 دولة على مشروع القرار، ورفضته 46 دولة وامتنعت 20 دولة عن التصويت وتغيبت دولتان.
أما مشروع القرار اللاتيني فبعد أن طلب إلى إسرائيل: «سحب كل قواتها من أراضي الأردن وسوريا والجمهورية العربية المتحدة»، ربط هذا بدعوته الأطراف في النزاع «إلى وضع نهاية لحالة النزاع العسكري والعمل من أجل إقامة تعايش سلمي قائم على حسن الجوار».
كما دعا في إحدى فقراته إلى «ضمان حرية المرور عبر الممرات المائية الدولية في المنطقة». وقد وافقت على مشروع القرار 57 دولة، ورفضته 43، وامتنعت عن التصويت عليه 20 دولة وتغيبت دولتان. وهكذا يتبين أن مشروع قرار دول عدم الانحياز، وهو أدنى ما يمكن أن تتقدم به هذه الدول إنما يطلب انسحاب المعتدي دون شروط، وهو الأمر البديهي في العلاقات الدولية، أما المشروع اللاتيني فهو يعلق الانسحاب على تقرير مزايا للمعتدين.
ثمة ملاحظة مهمة يجب أن تقرر حين نعرض بالتقييم لمواقف الدول والمجموعات الدولية عند نظر هذه القضية، وهي أن الدول التي أيدت الحق العربي، إذا ما استثنينا عدة دول كاليونان وتركيا واليابان، كان وراء مواقفها اعتبارات خاصة يجب أن ينظر لها باعتبار أنها قد اختارت وفي ظل ظروف قاسية من الضغوط المختلفة التي مارستها الولايات المتحدة أن تقف إلى جانب دولة كانت قائدة في حركة التحرر الوطني. ونستطيع أن نصنف مجموعات الدول التي اتخذت جانب العدوان وأن نتبين دافع موقفها كالآتي:
أولاً: مجموعة الدول الغربية ــ باستثناء فرنسا ــ وكانت مدفوعة بالوضع الفكري الزائف الذي يسود مجتمعات هذه الدول حول الاضطهاد الذي عاناه اليهود وبشكل خاص من النازية، وهي نفس الحركة التي عانتها هذه المجتمعات أيضا.
تسلط الدعاية الصهيونية وتأثيرها الكاسح على عقليات شعوب هذه الدول وتصويرها لإسرائيل باعتبارها الدولة الضعيفة التي تريد أن تعيش في سلام ولكن يحيط بها بحر من العداء العربي، يقابل هذه الدعاية غياب الدعاية العربية الموضوعية وجهل هذه المجتمعات حتى بالعناصر الأولية للحق العربي.
ثانياً: دول أمريكا اللاتينية، كانت مواقفها المتعارضة وقتها مع الحق العربي مدفوعة بالتسلط الأمريكي على كيانات هذه الدول سياسيا واقتصاديا في هذا الوقت إلى الحد الذي يمكن أن يقال فيه إن مواقف وقرارات هذه الدول لم تكن تصاغ وقتها في عواصمها أكثر مما تصاغ في واشنطن ونيويورك.
نفور حكام هذه الدول وقتئذ المرتبطين مصلحيا بالولايات المتحدة من الترابط بين حركات التحرر والاشتراكية. عدم الإلمام الكافي بالجوانب الحقيقية للقضية الفلسطينية فضلا عن الدعايات الصهيونية والعطف التقليدي على اليهود.
ثالثاً: الدول الإفريقية، كان وراء النفوذ الإسرائيلي الذي كان بدأ يتزايد في الدول الإفريقية في الستينيات، عدة عوامل هي: الجهود الضخمة التي بذلتها إسرائيل في الحقبة التي سبقت العدوان في البلدان الإفريقية في مجالات القروض والمساعدات والخبراء الفنيون المتخفون وراء مبادئ التعاون العلمي والفني، ثم أفواج القيادات الإفريقية والمثقفون الإفريقيون الذين تدعوهم لتصب في أذهانهم قصة المجتمع النامي المتطور الجديد.
الصورة التي كانت إسرائيل تقدمها إلى الدول الإفريقية الجديدة، والتي تخشى عقدة الاستعمار والدول الكبرى باعتبارها دولة صغيرة ليس لها أطماع استعمارية ولا تبغي إلا التعاون المنزه، في الوقت الذي تكون فيه مصادر تمويلها وقروضها لهذه الدول هي الاحتكارات الرأسمالية الغربية التي لا تستطيع أن تتقدم مكشوفة إلى هذه الدول الإفريقية ذات الحساسية تجاه تلك الاحتكارات.
("الأهرام") المصرية