إنّ الشرعية الدورية المتمثلة في إجراء الانتخابات بأنواعها ومستوياتها السياسية والإدارية لم تعد قادرة على تلبية احتياجات الكتل المواطنية المحتجة الجديدة أو ما وصفناه في دراسة لنا نشرت في 2018: بالحركة المواطنية الجديدة Citizenism؛ التي تضمّ تقاطعات جيلية وطبقية وجهوية تشعر بالتراجع التاريخي عن الوفاء بوعود ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تتعلق بالرفاه والمساواة تحديدًا.
لم يعد الغضب يرتبط بمطالب البروليتاريا أو الطبقة العمالية حصرًا، وإنما بالحياة الإنسانية تفصيلًا
وعمّت أوروبا: الشمالية الإسكندنافية الغنية، والجنوبية المتوسطية، والوسطى الغربية، والشرقية، إضافة للمملكة المتحدة، حالة من "الغضب التاريخي" Historical Anger؛ خاصة للشريحتين الوسطى والدنيا للطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة والعمّالية والمهمّشة إضافةً إلى طبقة "البريكاريات" (طبقة قام بتصنيفها العالم البريطاني "جي ستاندينج" في الجسم الاجتماعي الإنجليزي مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة وقمنا باقتراح مقابل لها بالعربية هو طبقة المنبوذين/المنسيين).
ويكمن سر غضبهم في أنهم لا يعيشون حياة "محترمة". فلم يعد الغضب يرتبط بمطالب البروليتاريا أو الطبقة العمالية حصرًا، وإنما بالحياة الإنسانية، تفصيلًا، لجعلها أكثر "احترامًا" “Decent”.
تحرّكت الكتل المواطنية الجديدة ضد مؤسسات ونخب وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية ولسان حالها: "لقد مللنا كلّ شيء ولا بد من تأسيس زمن جديد". كشفت الحركية الأوروبية المواطنية عن ثلاث حقائق: الحقيقة الأولى: الإخفاق الاقتصادي الكبير والذي تجلّى بدايةً من الأزمة المصرفية السويدية سنة 1990، والأزمة الاقتصادية الأسوأ في التاريخ الإنساني 2008 وتداعياتها التي لم تزل سارية حتى يومنا هذا. الحقيقة الثانية: الانكشاف عن هشاشة النظم الخدمية والتأمينية خاصةً مع هجمة الجائحة الفيروسية في 2020. الحقيقة الثالثة: التصدع التاريخي لتحالف يسار الوسط “Collapse of center – left parties”، الذي كان أداةً للاقتصاد النيوليبرالي من حيث القيام بأدوار: تسكينية، وتعويضية، لتمرير سياسات تصب في صالح القلّة الثروية من أجل مزيد من الثراء كما بين تقرير مؤسسة "أوكسفام" لسنة 2023 والمعنْوَن: "البقاء للأغنى".
في هذا السياق، كان لفرنسا النصيب الأكبر من التعرض للاحتجاجات من قبل مواطنيها ضد أداءات السلطة الحاكمة التي توالى عليها أربعة رؤساء للجمهورية: "شيراك" و"ساركوزي" و"هولاند" و"ماكرون". عانى المحتجون من القوة المفرطة للشرطة التي أدت إلى واقعة اغتيالها لمراهقين، صعقًا بالكهرباء، في 2005 في بلدة "شين بوانتو" بمدينة "كليشي سو بوا" في الضاحية الشرقية للعاصمة الفرنسية باريس، فأشعل أعمال عنف لعدة أسابيع وقت حكم الرئيس جاك شيراك. وتكرر قتل شاب فرنسي من أصول جزائرية، قبل أيام، بضاحية "نانتير"، بغرب باريس، بأيدي الشرطة أيضًا. وبين الحدثين كان لسوء إدارة الملفات: الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، أثره في صعوبة الأحوال المعيشية للطبقتين الوسطى والفقيرة على السواء في المدن والضواحي والريف، وضعف توفير الاستثمارات اللازمة لتطوير منظومتي التعليم والصحة، كذلك عدم القدرة على تطبيق سياسات ناجعة لدمج المُجنّسين خاصة الشباب في المجتمع الفرنسي. وهو ما يؤكده الكثير من الإضرابات التي قامت على مدى ما يقرب عقدين من الزمان، بين واقعتي "شين بوانتو" و"نانتير"،... وفي هذا المقام، نشير إلى إضرابات: السكك الحديدية أو ما عُرف بالثلاثاء الأسود، والطيران، وعمّال القمامة، والمعلّمين، وعمّال النقل، وموظفي المستشفيات العامة، وعمّال المصافي النفطية، والموظفين عمومًا الذين عارضوا بقوة قانون التقاعد في السنة الأخيرة.
تآكل طال الشرعية التاريخية للجمهورية الخامسة... وخلل مزمن أصاب البنية السياسية الفرنسية
ولعلّ أخطر ما تبيّن، خاصةً بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، عدم قدرة فرنسا على لعب دور أوروبي قائد ومؤثر على عكس ما كان يحاول أن يعمل عليه، ويوحي به إيمانويل ماكرون، يكون بديلًا للحضور الأمريكي الذي غيّبه دونالد ترامب. بيد أنّ عقد قمة "الناتو" الأخيرة بليتوانيا قد جدّد عودة الولايات المتحدة الأمريكية لأوروبا وأكد الارتباك الأوروبي دونها.
المحصلة، في تقديري، أنّ هناك قدرًا من التآكل قد طال الشرعية التاريخية للجمهورية الفرنسية المعروفة بالجمهورية الخامسة التي تأسّست قبل 65 سنة. ولعلّ توالي الاحتجاجات واتساعها في عموم فرنسا، وتنوّع التشكيلات الاحتجاجية وتعدّدها أو ما يعرف "بحركات الشارع" Street Movements؛ مثل حركات: "الواقفون ليلًا"، و"فتيان وفتيات ثانوي"، و"إلى الأمام"، و"السترات الصفراء"، و"الملابس السوداء/الكتلة السوداء"؛ إضافةً للأحزاب الشعبوية، والحركات المطالبية البيئية والخضراء، وذلك على مدى ما يقرب من ربع قرن، يؤكد أنّ خللًا ما، بات مزمنًا، قد أصاب البنية السياسية الفرنسية، ما أقلق المستشار الألماني وعبّر عنه قبل أسبوعين في ذروة أحداث "نانتير"... ما يدفعنا لتذكّر أنّ ما يحدث في فرنسا – تاريخيًا - يكون له تداعيات على أوروبا وخارجها.
(خاص "عروبة 22")