دعونا نتفق بدايةً، أنّ نكبة فلسطين هي النكبة الممهّدة للنكبة الكبرى غزو العراق واحتلاله. ومن هاتين النكبتين استُولدت نكبات متتالية في ليبيا وسوريا واليمن، وقبلها لبنان، واليوم في السودان الذي نقلنا من حرب المجتمع على الدولة، إلى حرب الدولة على نفسها.
"غرف عمليات" دُجّجت بعلماء اجتماع وإثنيّات وقوميات وديموغرافيا وجيولوجيا وطاقات طبيعية ومنجميّة
بات واضحًا أنّ استراتيجيات الهيمنة والنفوذ للاستعمار، قد تغيّرت أساليبها وتبدّلت أشكالها. وأنّ غرف العمليات التي تضع الخطط، وترسم الخرائط والشرائط الحدودية بين الدول، وداخلها، لم تعُد حكرًا على جنرالات الجيوش. فالقوّة الخشنة أعيد النظر بتشكيلها وحجم ونوعية وتوقيت تدخّلها في ظلّ تكنولوجيا الروبوتات، والحروب السيبرانية، والصواريخ المُجنّحة والمُسيّرات المفخّخة.
إذن، وقائع غزو العراق واحتلاله، كما العدوان على ليبيا، والصراع على سوريا وفيها، أثبتت أنّ غرف العمليات، دُجّجت بعلماء الاجتماع والإثنيّات والعرقيات والقوميات والديموغرافيا والدينوغرافيا. بالإضافة إلى علماء الجغرافيا والطبوغرافيا والجيولوجيا والتصحّر والمياه والطاقات الطبيعية والمنجميّة، فضلًا عن علماء القانون وصنّاع الدساتير، ودهاقنة الإعلام والإعلان والتسويق الذين يقومون كقوّة ناعمة بالقصف المركّز لاختراع وانتاج عوامل تفتيت هذا البلد أو ذاك، وإعادة رسم خرائطه.
معلوم أنّ مُصيبة العراق خلّفت ملايين المهجّرين والقتلى والمعوّقين والمشرّدين داخل بلادهم. بشكل متشابه مع مُصيبة سوريا التي خضع تدميرها لمعايير مختلفة عن غزو العراق. وكذلك ليبيا واليمن بغضّ النظر عن النسب والأرقام. ومعلوم، أنّ نحو نصف أبناء هذه البلاد باتوا بين لاجئين، ونازحين ومهجّرين بين مخيمات البؤس والإذلال والتسوّل وقوارب الموت.
احتجاجات فرنسا واحتمالات امتدادها أوروبيًا، ساهمت في تحفيز الاندفاعة الإيطالية باتجاه تونس وليبيا
وكشاهد عيان، ثمّة مشهد لا يفارقني. فأثناء الثورة على معمّر القذّافي، وقبيل تدخل الـ"ناتو" بثلاثة أسابيع، كانت مؤسّسات الإغاثة العربية والأجنبية التي تحرّكها أجندات معلومة تستعد لتداعيات الحرب. وقبل بضعة كيلومترات من الحدود التونسية الليبية شاهدتُ الآف الخيم المعدّة لاستقبال لاجئي حرب الـ"ناتو". بعد أسبوعين على تهاطل الصواريخ "الناتوية" وانطلاق حركة النزوح الليبي باتجاه تونس ومصر والجزائر وتشاد والنيجر، دفعتني الظروف لمغادرة طرابلس إلى تونس وسط أرتال الهاربين من جحيم الحرب. وللمفارقة وجدتُ الخيم المنصوبة تسكنها الرياح. ونتيجة إقامتي لبضعة أيام بين مدينتي بنقردان وجربة، علمتُ أنّ القائمين على المخيمات حثّوا بعض سكان الحدود الليبية للإقامة في المخيّم لأيام مقابل المال، وحصول الأمر على نحو ضئيل، اضطرهم لتعبئة واجهة المخيم ببعض الهاربين من المهاجرين الأفارقة.
سرد هذه المشهدية ضروري للوقوف على المرامي الخفيّة لهذه الحرب المدجّجة بأنياب ومخالب خارجية ليس هدفها مجرّد إسقاط نظام القذّافي، فهذا جزء ثمين من بنك الأهداف الذي وُضعت له خططًا ما بعد عشرية، معالمها تتظهّر. فالأمر ينسحب على تونس، التي تحوّلت يومها إلى "قنطرة" لنقل السلاح والمؤن لمجاهدي الـ"ناتو" باعتراف الباجي قائد السبسي. وكانت إدانة الرئيس التونسي قيس سعيد لدور أسلافه في الحرب "الناتوية" على ليبيا، محل استحسان في الشارعين التونسي والليبي، تعزّز برفضه الخضوع لشروط وإملاءات صندوق النقد الدولي كما وصفها، لأنّها تمسّ بسيادة تونس.
استحسان، تحوّل استهجانًا جرّاء تفاهم قيس سعيد مع رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني والتوقيع معها بحضور نظيرها الهولندي ورئيسة الإتحاد الاوروبي على "مذكرة الشراكة الشاملة" بهدف "مواجهة أزمة الهجرة عبر المتوسط" مقابل قرض بمليار يورو لمحاولة إنعاش الاقتصاد التونسي من الإفلاس الذي يهدّده. أي أنّ تونس هي بمثابة شرطي يكافح الهجرة نيابةً عن أوروبا، وسرعان ما أكدت التزامها بإبعاد مئات المهاجرين قسرًا إلى داخل الحدود الليبية ليواجهوا مصير الموت عطشًا ما أثار السخط والخجل، بعد تطاير صور المهاجرين التي تمسّ آدمية الإنسان وكرامته في عراء الصحراء ولهيبها. لكنّ مقاربة قيس سعيد في مؤتمر روما جحّظت الخلل بأنّ "الهجرة الحالية هي ردّ طبيعي على الهجرة الاستعمارية الأوروبية السابقة لبلاد المهاجرين حاليًا".
سبق الإتفاق الإيطالي التونسي، مشروع طُرح منذ أعوام، وتجدّد في نيسان/أبريل الماضي، وأطلقته منظمة "آرا باتشي" الإيطالية ويتعلق بإنشاء "مركز الصحراء للسلام في ليبيا" الذي يستهدف تعزيز قطاع الزراعة وعمالتها، ودعم اندماج السكان المحليين ومجتمعات المهاجرين في المنطقة.
ويُرجّح أنّ الاحتجاجات الغاضبة التي شهدتها فرنسا بسبب قتل شرطي للشاب نائل الجزائري، واحتمالات تكرارها فرنسيًا وامتدادها أوروبيًا، ساهمت في تحفيز الاندفاعة الإيطالية باتجاه تونس وليبيا، عبر العمل على إنشاء مدن متكاملة مزوّدة بمشروعات تنموية وزراعية ليستوطنها المهاجرون الأفارقة، بحسب اتهام حكومة البرلمان شرقي ليبيا، لحكومة عبدالحميد الدبيبة غربي ليبيا.
تفكيك شفرة المجتمع الليبي والعبث بها، قبائليًا وإثنيًا وعرقيًا، من أهداف العدوان المركزية
لكنّ المسألة التي ظاهرها منع تدفق المهاجرين لأوروبا، أعمق من ذلك، سيّما وأنّها ترتكز على استنفار عصبيات إثنية وعرقية مثل التبو والأمازيغ الذين يتوزعون ضفاف الحدود المتداخلة مع جوار ليبيا. واذا ما استثنينا الجزائر بسبب مناعتها الأمنية والعسكرية. فالهشاشة الأمنية لبقية الدول تجعل هذا المشروع رغم صعوبته قابلاً للتنفيذ لأنه "سوبر وجودي وحيوي" للأوروبيين الذين درسوا سوسيولوجية وبسيكولوجية هذه المكوّنات وتشابهها مع المهاجرين الأفارقة. ولهذا احتضن الأوروبيون هذه المكوّنات، وضخّموا اضطهاد الأكثرية العربية لها.
إذن، تفكيك شفرة المجتمع الليبي والعبث بها، قبائليًا وإثنيًا وعرقيًا، وإذكاء التناقضات بينها وداخل كل منها، من أهداف العدوان المركزية. فشبح تقسيم ليبيا، بات يخيّم فوقها وبألسنة متنفذيها الراغبين بإعادتها إلى زمن الأقاليم الثلاثة. ليتبيّن أنّ ما كان يستبطنه الغرب أبعد من ذلك بكثير، فكما بات الحديث عن تقسيم السودان لخمسة دول متاحًا في الفضاء العام، باتت ملامح تقسيم ليبيا لخمسة أقاليم ترتسم فوق الكثبان الرملية. ومشهدية مؤتمر روما الذي تمثّلت فيه ليبيا بكلمتين لرئيسي المجلس الرئاسي والحكومة، يعكس إلتزامات ضمنية مع الأوروبيين.
لم يعد الكلام عن دولة للتبو، تمتد على الشريط الليبي السوداني التشادي، المتداخل قبليًا خافتًا. فالكونغرس التباوي سوف لن يرفض أن يكون له إقليم أو دولة تستوعب ضمنًا أقرانهم من المهاجرين الأفارقة. والأمر نفسه ينسحب على الأمازيغ الذين لطالما روّجوا لمشروعهم المدعوم غربيًا لإقامة الدولة الأمازيغية على الشريط الأمازيغي الليبي التونسي الجزائري كمرحلة أولى. ومنذ إسقاط نظام القذّافي لم ينفك أمازيغيو ليبيا عن المطالبة بدسترة حقوقهم الثقافية خاصة، أسوةً بأكراد العراق. وإسقاط الحالة العراقية على ليبيا جد منطقي، بالنظر إلى أنّ تفكّك الدولة وتحلّلها في البلدين شرّع مقصّات التقسيم ومنها قانون الكونغرس الذي يقسّم العراق إلى ثلاثة أقاليم، تمامًا كما أنّ "استراتيجية أمريكا العشرية" ترتكز على رفع "التهميش" عن الجنوب الليبي، لتتحوّل ليبيا إلى خمسة أقاليم، وليس ثلاثة.
الوجدان الجمعي العميق للمهاجرين الأفارقة، يستبطن الثأر من متسبّبي فقرهم وناهبي مناجمهم
مكافحة ظاهرة الهجرة غير النظامية المتداخلة مع ملفي النازحين واللاجئين، كانت عنوان المؤتمر الدولي العربي المتوسطي الذي شهدته روما، وقد عكست كلمة المضيفة الايطالية ومفوضة الاتحاد الاوروبي بروز ملامح مقاربة أوروبية جديدة قائمة على ثنائية التنمية والأمن معًا.
بدون شك تحتاج أوروبا إلى مقاربة جديدة وموثوقة، كي تحقّق الجهود المشتركة النتائج المرجوّة في محاصرة تداعيات "القنبلة البشرية" وتحدياتها، بل وتهديداتها، للدواخل الاوروبية، خصوصًا بعد موجة التحريض والعنصرية والكراهية والمسّ بالمقدّسات الدينية المنبعثة كروائح كريهة من السويد ومن ثم الدنمارك، وربما تجتاح أوروبا التي عليها الإعتذار عن حقبتها الاستعمارية وتعويض الشعوب والبلاد المستعمرة كما أوضح قيس سعيد. سيّما إذا ما أدركنا أنّ الوجدان الجمعي العميق للمهاجرين الأفارقة خاصة، يستبطن الثأر من متسبّبي فقرهم وناهبي مناجمهم، ولهذا يركبون قوارب الموت ويهاجرون وراء ثرواتهم المسروقة.. إنها معادلة "فوبيا أوروبا" أو "الأوروفوبيا" المتجاوزة بأبعاد كثيرة "الإسلاموفوبيا".
لكن... ماذا عن "فاغنر" وبوصلتها الأفريقية؟
(خاص "عروبة 22")