وجهات نظر

عروبة الجغرافيا ودرس التاريخ.. رفح ليست آخر حدود مصر

قبل احتلال إسرائيل لمحور "صلاح الدين" بالمخالفة الفجة لاتفاقيات "كامب ديفيد"، واستهانة مستهجنة بدور مصر وثقلها، كان العنوان الأولي لهذا المقال "عروبة الجغرافيا بين عبد الناصر وجمال حمدان"، ولم يكن الجمع بينهما في انحيازاتي الفكرية صدفة، فقد نشأتُ قوميًا على فكر جمال عبد الناصر، ومن بعد صرتُ عروبيًا على طريقة جمال حمدان.

عروبة الجغرافيا ودرس التاريخ.. رفح ليست آخر حدود مصر

قومية عبد الناصر وليدة تجربته في حرب فلسطين الأولى (1948) التي حفرت في وعيه مبكرًا أنّ "قتال العرب في فلسطين هو دفاع عن النفس"، وبعد خمس سنوات سيكتب في فلسفة الثورة أنّ "رفح ليست آخر حدود مصر". أما جمال حمدان فقد علمته الجغرافيا أنّ مصر جزيرة عربية خالصة يحيط بها العرب من كل الجهات؛ و"تزداد مع الزمن عروبتها عمقًا وكثافة".

خلفية عبد الناصر العسكرية، وفهمه العميق لتاريخ وجغرافية مصر، واطلاعه المعمق على المتغيّرات الجارية في عصره، قاده ذلك الوعي المتنامي إلى الاقتناع الكامل بأنّ "العروبة قدرٌ ومصير".

في خضم العدوان الثلاثي على مصر 1956 أيقن عبد الناصر أنّ أيّ مشروع وطني في أية بقعة من الأرض العربية لا يمكن له أن يكتمل إلا في إطار تكامل وتعاضد وتضامن عربي حقيقي.

العروبة هي الإنسان المؤمن بأنه جزء من شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ وتوحّده الجغرافيا وتعزّز وحدته المصالح

لم تكن العروبة عند حمدان أيدولوجيا نأخذ منها أو نرفضها، تنمو أو تندثر، يمكن أن نضعها في سلة واحدة مع أيدولوجيات كالشيوعية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها، ذلك لأنّ العروبة عنده "طبيعة، عنصر طبيعي، كالتضاريس، والجبال، والأجناس، إلى آخره من معطيات الطبيعة".

المعنى نفسه تبدى في خطاب عبد الناصر بعد الانفصال السوري 1961: "عروبة مصر ستبقى، لأن تلك هي الطبيعة نفسها، وليست إرادة فرد أو أفراد، علينا أن ندرك أنّ وحدة الأمّة العربية أيضًا طبيعية كطبيعة وجودنا ذاته".

بالاستعمال الحركي السياسي المعاصر تشوّه مضمون "القومية"، وبمفاعيل الحكومات العربية التي رفعت شعاراتها اختُطفت "العروبة" وصُودرت، وحُمِّلَت مضامين عنصرية مغرقة في الإقليمية أحيانًا، وفي كل الأحيان تلبست بمضامين معادية للديمقراطية.

العروبة أخت التاريخ، وهي بنت تلك الجغرافيا الممتدة من خليج العرب إلى مضيق جبل طارق، وهي صانعة ذلك التاريخ الممتد عبر عشرات القرون.

العروبة هي ذلك الإنسان الذي يحمل بين جوانحه الوجدان المؤمن نفسه بأنه جزء من شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ، وتوحّده الجغرافيا وتعزّز وحدته المصالح، وفي قلبه حلم ما زال ينبض بالتكامل والاتحاد بين مكوّنات الوطن الواحد من طنجة إلى الدوحة.

العروبة في فكر عبد الناصر - كما في رؤية حمدان - غير قابلة للانحسار، وهي قادرة على أن تجدد وتثبت نفسها بنفسها.

لا تنفي العروبة ولا تستبعد الخصوصيات المتعددة، ولا تنظر إلى السمات الخاصة للشخصية المصرية كما للشخصية اللبنانية والسورية والعراقية والمغربية باعتبارها ردة إلى الفرعونية والفينيقية والآشورية والبربرية، ويجب أن لا توضع تلك الخصوصيات في خانة تبرير أو تسويغ التجزئة والتباعد عن الجوهري والأصيل والمشترك بينها جميعًا.

المسار الذي عبرته عملية ترجمة العروبة كحقيقة تاريخية إلى الوحدة العربية كحقيقة سياسية تعرّضت لهزات عنيفة، يُقلّل حمدان من تأثير هذه الهزات التي استهدفت "أساس القومية"، ويرى أنها "لم تنجح إلا في حقنه بمزيد من الأسمنت كمادة لاحمة، والوقود كمادة لاهبة".

لم يكن جمال حمدان ينطلق من موقف سياسي آني أو مرحلي حين حدد ثوابت موقفه، ومحددات موقعه ضد اتفاقيات "كامب ديفيد"، بل كان ينطلق من حقيقة أنّ هذه "الاتفاقيات" هدفها القبض على عروبة مصر والقضاء على دورها في محيطها العربي.

وهو ما حدث بالفعل.

لست أذكر أين قرأت ومن القائل إنّ ما يجمع بين عبد الناصر وحمدان وعروبيين آخرين كثيرين هو الاتفاق على أنّ "حب المصري لمصر يُقاس بمدى عروبته، وأنّ المصري الأكثر مصرية هو المصري الأكثر عروبية".

مصر محكوم عليها بالعروبة، فللجغرافيا أحكامها، وللتاريخ دروسه، وللمستقبل دواعيه وضروراته.

تغيب مصر أو تُغيَّب لكنها لن تتخلّف عن مواعيدها مع إعادة التاريخ إلى مجراه الطبيعي

ما يجري اليوم على مسافة أمتار من الحدود بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية له ما بعده، المؤكد كاليقين أنّ التخاذل مؤقت، وستثبت الأيام المقبلة أنّ نصرة الحق الفلسطيني هو على الحقيقة دفاع عن حقوق مصرية كثيرة.

ليست الجغرافيا وحدها التي تعطينا هذا اليقين، بل هو التاريخ الطويل، والدور المؤهلة له مصر، وقد تصدت للقيام به على مر الأزمنة حتى تبدو فترات انكفائها إلى الداخل في موقع الاستثناء الذي يثبت قاعدة أن لا أحد في الإقليم يمكنه القيام به إذا غابت أو غُيّبَت.

مصر يمكن أن تغيب بعض الوقت، لكنها لا تملك ترف أن تُغيَّب طول الوقت.

تغيب مصر بسبب ظروفها الداخلية، أو تُغيّبها مؤامرات الخارج، لكنها لم ولن تتخلّف عن مواعيدها مع إعادة التاريخ إلى مجراه الطبيعي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن