بصمات

الغرب الذي نحن

كان المفكر والأديب المصري الراحل طه حسين يرى أنّ مصر بلاد تنتمي من حيث موقعها وهويتها وتاريخها للحضارة الغربية لا للشرق، وذلك ما أكده في كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" الذي أثار جدلًا واسعًا لمدة عقود طويلة.

الغرب الذي نحن

عندما كتب طه حسين أطروحته في ثلاثينيات القرن الماضي كانت الفكرة الاستشراقية قد ركزت مقولة الفصل بين الشرق الحالم والغرب التجريبي (أرنست رينان)، رغم أنّ هوية الحضارة الغربية تمحورت من هذا المنظور حول الإرث اليوناني – الروماني، والتقليد اليهودي – المسيحي.

ما لا بد من إيضاحه هو أنّ إعادة اختراع الأصل اليوناني للحضارة الغربية فكرة جديدة تعود لعصر النهضة الأوروبية، ولا دليل عليها من منظور الموضوعية التاريخية. فمن المعروف أنّ الفلسفة اليونانية تنتمي للسياق الثقافي الشرقي، بل إنّ أهم فلاسفة اليونان الأقدمين (مثل طاليس وفيثاغورس واكزنوفان...) عاشوا في آسيا الصغرى (أي في تركيا الحالية). كما أنّ المدارس الفلسفية اليونانية الأخيرة كانت في الإسكندرية وبلاد الأناضول بعد أن أغلقت في اليونان نفسه.

التصورات الحالية للشرق والغرب تعود إلى قسمة الإمبراطورية الرومانية وفق خط التمايز الآسيوي الأوروبي

ومن البديهي أنّ فكرة التقليد اليهودي - المسيحي جديدة ترجع إلى المجمع الفاتيكاني الثاني في ستينيات القرن الماضي، والغرض منها هو إقصاء الإسلام من التقليد التوحيدي المشترك الذي هو خاتمته ونقطة اكتماله.

وعلى الرغم من الفروق البديهية بين النموذجين اليوناني والتوحيدي، إلا أنهما يتفقان في بعض المحددات الكبرى مثل فكرة الكونية والنزعة الإنسانية والتصور الخطي الغائي للتاريخ.

في كتابه الأخير الصادر بالفرنسية بعنوان "التفكير في التاريخ، التفكير في الدين" يبيّن المفكّر التونسي الراحل هشام جعيط أنّ العالم القديم كان يتوزع إلى غرب يشمل مصر واليونان والأناضول والهلال الخصيب وإيران وأفغانستان وربما الهند بالإضافة إلى الهضبة الروسية وشبه الجزيرة الأوروبية، وشرق يضم العالم الصيني أي ما يسمى الشرق الأقصى، من الهند الصينية إلى اليابان وهو عالم منغلق على نفسه، له ثقافته المميّزة وهويته المختلفة.

ومن هنا يوضح جعيط أنّ التصورات الحالية للشرق والغرب تعود إلى قسمة الإمبراطورية الرومانية وفق خط التمايز الآسيوي الأوروبي. أما عبارة "الشرق الأوسط" ومقولة "الشرق الأقصى" فلا تعنيان أكثر من مركزية الدور الأوروبي الحديث في الرهانات الاستراتيجية العالمية.

وفي حين كان ما يُسمى حاليًا بالشرق الأوسط محور العالم الغربي من العصر الحجري الحديث إلى الحضارات النهرية والإمبراطوريات الأولى، وظهور الديانات السماوية، ثم العصر اليوناني والهيمنة الرومانية، فإنّ محورية أوروبا لم تبدأ إلا مع عصر النهضة بدايةً من ايطاليا التي هي الخلفية القصوى للعالم الشرق أوسطي.

ولقد انجر عن حركية الاكتشافات الكبرى تهميش الشرق الأوسط، بفتح قنوات تبادل تجاري مباشر بين أقصى الشرق وأقصى الغرب.

الصراع المحتدم حاليًا في الدائرة الاستراتيجية العالمية صراع أفكار وقيم على أرضية مشتركة

لا تهمنا هذه الاعتبارات التاريخية البعيدة، وإنما أردنا من خلالها التذكير بهشاشة أطروحة الصدام الحضاري بين الشرق والغرب التي تهيمن راهنًا على جانب واسع من الفكر السياسي والاستراتيجي الغربي.

ما نريد أن نؤكده هو أنّ العالم العربي الإسلامي ينتمي في العمق إلى السياق الثقافي والحضاري الغربي، بل هو قلب هذا السياق تاريخيًا وفكريًا. كان الفيلسوف الألماني الأمريكي ليو شتراوس يتحدث عن ثنائية أثينا والقدس التي يرى أنها تجلت بقوة في الفلسفة الإسلامية الوسيطة، ولا تزال هي المحور النظري والقيمي للثقافة الغربية الحديثة رغم انغلاقها في الوضعية والتاريخانية النسبية.

وحاصل الأمر أنّ الصراع المحتدم حاليًا في الدائرة الاستراتيجية العالمية ليس بين شرق يُختزل عادةً في الإسلام الذي يُنعت ظلمًا بالتمنّع على التحديث والتطور التاريخي، وغرب يحتكر العقلانية والتقدّم. إنه صراع أفكار وقيم على أرضية مشتركة، مع احترام حق الاختلاف والهوية الخصوصية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن