وجهات نظر

"الذباب الإلكتروني" في الفضاء العربي: أداة ناعمة لإدارة الصراعات

يؤرخ كثيرون لبداية ظهور مسمى التعبئة الإلكترونية الناعمة، داخل الفضاء الإلكتروني مع مطلع العام 2008، وذلك في سياق انطلاق الانتخابات الأمريكية، تحولت بموجبها الإنترنت وسيلة اتصال محورية في الحملات الانتخابية، حيث أتاحت لكل من المرشحين والإعلاميين والناخبين فرصًا واسعة لتبادل المعلومات، بل تعدى ذلك أن كان للإنترنت دور مهم في جمع التبرعات للحملة، وتجنيد المتطوعين لنصرة مرشح على حساب آخر.

وفّر ذلك فضاءً رحبًا لنقل الصراع من فضائه المادي الصلب في المؤتمرات والندوات وداخل قبة البرلمانات والمؤسسات، إلى فضاء الانترنت السائل، وجدت فيه بعض التنظيمات فرصًا ملائمة لنشر أفكارها وأهدافها بغية توسيع القواعد وجذب المستخدمين والتأثير في الرأي العام الإلكتروني وتفاعلاته، وفي الوقت ذاته ضرب الخصوم والتفوق عليهم، ومنه تحوّل فضاء الانترنت ساحة حرب ناعمة، لإدارة الصراع السياسي على السلطة داخل البلد الواحد، بل تعدى ذلك إلى نوع من الصراعات الخارجية فيما بين الدول والمجتمعات، سواء القريبة أو البعيدة، وظهرت إلى الوجود مسميات تحيل إلى حدة التغالب والتنازع القائم في الفضاء الإلكتروني من قبيل: الذباب الإلكتروني، والميليشيات الإلكترونية، والجيش الإلكتروني، والأذرع الإلكترونية..

حسابات تتخفى خلف ستار هوية مجهولة لا يُدرَك انتماؤها إلا من خلال الحروب الالكترونية التي تشنها على الخصوم

ويحيل معنى الذباب الإلكتروني، بصفة عامة إلى مجموعة من المستخدمين المرتزقة أو المتطوعين، الذين يتصلون بصورة أساسية من خلال شبكة الإنترنت، ويستطيعون إخفاء هويتهم كقاعدة عامة، ويمتلكون القدرة والرغبة على شن حملات تعبئة أو تشويه وسب وتهديد وتخويف، ومن الملحوظ أنهم يشتغلون عادة في شكل ذئاب منفردة أو ضمن مجموعات متحدة ومتساندة تمارس عملية الإنزال الجماعي داخل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أو القنوات الإعلامية ضمن خدمة نشر المحتويات أو التعليقات، ولا يخضعون للسيطرة المباشرة لأي مؤسسة أو جهة معروفة، بل من الممكن أن يصبحوا إضافة مهمة لقوة الدولة أو الشخصية السياسية أو الجهة التي يدعمونها، ولكنهم في الوقت ذاته من الممكن أن يتحولوا في أي لحظة إلى تهديد للجهة التي تحرّكهم أو حتى للأمن القومي للدولة (Rain, Ottis)، من طريق إذكاء الصراعات والفتن وأشكال النزاع خلال فترات الأزمات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، أو خلال الانتخابات والاستفتاءات والاستطلاعات وسن القوانين وتصاعد الأحداث.

ويتجلى عمل الذباب الإلكتروني من خلال زرع مجموعة من الشباب المجنّدين أو المتطوعين والممتلكين للمهارات التقنية، كخلايا ناعمة قادرة على توظيف قوة الفضاء وسطوته، بغرض توجيه الرأي العام والتأثير فيه من جهة، وكذلك منازعة الخصوم وغلبتهم من جهة أخرى، ونشر تعليقات متوالية ضد أي منشور أو فيديو لا يوافق التوجهات والأهداف التي يتصرفون وفقها، بالإضافة إلى التعليق على الأخبار ومحتويات باقي المستخدمين وإذكاء الصراع والنزاع بينهم، وإغراق المواقع والمحتويات المخالفة بالأخبار الزائفة، والمحتويات الغريبة، أو تقديم شكايات إغلاق الحسابات، ونشر الفتنة والتشكيك والمعارضة عبر سيل الشتائم والكلمات القدحية للشخص أو الجهة أو الدولة الخصم، وغالبًا حين يتم الدخول إلى هذا النوع من الحسابات، يتكشف أنه وهمي وفارغ وفي الغالب مغلق، لا تظهر تفاعلات صاحبه كما هو الشأن مع الحسابات العادية للمستخدمين.

الذباب الإلكتروني أحد مساوئ الديمقراطية الإلكترونية التي فتحتها شبكة الانترنت من الجميع وإلى الجميع

وأحيانًا يلجأ هذا الذباب للترافع الطوعي عن جهة معينة أو مؤسسة أو دولة، من خلال إعراب هؤلاء عن استعدادهم التام لتقديم كل أشكال الولاء والدعم الإلكتروني، الأمر الذي يجعلنا نقف أمام وابل من الحسابات والصفحات، التي تتخفى غالبًا خلف ستار هوية مجهولة لا يُدرَك انتماؤها الجغرافي أو الأيديولوجي إلا من خلال الحروب الالكترونية التي تشنها على الخصوم، أو لحظة الدفاع عن جهة معينة، وقد سبق أن أعلن موقع فيسبوك عن لجوئه إلى إغلاق كثير من الحسابات الوهمية التي وظفت من طرف ذباب إلكتروني لصالح هذه الجهة أو تلك، وقد سبق مثلًا لحساب من هذا النوع نُشر تحت مسمى "بختي عباسي - Bakhti Abassi" أن عرض منشورًا داخل مواقع التواصل الاجتماعي، يعرض من خلاله خطة عمل الذباب الإلكتروني (سماه النضال الإلكتروني)، تضمن دعوة إلى نشر ثقافة البلد وتاريخه على الصفحات العربية، وبالمقابل تشكيك الآخرين في تاريخهم وهويتهم وسيادتهم.

والخلاصة أنّ الذباب الإلكتروني أو الكتائب الإلكترونية داخل البلاد العربية، وللأسف يعتبر فيما يبدو أحد مساوئ الديمقراطية الإلكترونية التي فتحتها شبكة الانترنت من الجميع وإلى الجميع، بمؤهلات علمية وأخلاقية أو بدونها، بحيث لم يطابق كلية ذلك الفضاء الوسطي الذي تشكل في القرون الوسطى فيما بين الدولة والمجتمع، أو ساحة الأغورا اليونانية التي سادت منذ أكثر من 20 قرنًا، والتي كانت مفتوحة فقط أمام اليونانيين الحكماء من أجل المشاركة في تدبير شؤون المدينة ولكن بشروط ومؤهلات محددة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن