في خطبة العرش التي ألقاها في 18 يناير/كانون الثاني 1863، تعهد إسماعيل ببذل كل الجهد في اتباع قواعد النظام والاقتصاد، وانتهى به الحال معزولًا مطرودًا بعدما وقع وأوقع مصر في فخ الديون.
بعد 16 عامًا قضاها في الحكم، صدر في نهاية يونيو/حزيران عام 1879، فرمان السلطان العثماني عبد الحميد بعزل إسماعيل الذي تسبب في تدهور أحوال مصر الداخلية والخارجية، وأصدر السلطان فرمانًا آخر يكلّف فيه محمد توفيق باشا بتولي المنصب، خلفًا لوالده، الذي غادر مصر متوجهًا إلى إيطاليا.
كان مشهد خلع إسماعيل، مدبرًا، حسبما أشار المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل"، إذ أوعزت بريطانيا وفرنسا إلى السلطان بعزله، بعد صراعه مع قنصليهما بالقاهرة، إثر عدم قدرة البلاد على سداد مستحقات الدائنين الأوروبيين.
أغرق اسماعيل البلاد في مستنقع الدين وانتهى الأمر بعزله واحتلال بريطانيا لمصر
لا يُنكر المؤرخون ما حققه إسماعيل من إنجازات كبرى، لكنهم اتفقوا أيضًا على أنّ الرجل كان يتفنن في ضروب الإسراف والبذخ، "لم يكن يمر عام إلا ويقضي في الأستانة وغيرها من العواصم الأوروبية وقتًا طويلًا ينفق فيه الأموال بغير حساب".
كلفت رحلات الخديوي، الذي كان مغرمًا بالطراز الأوروبي، إلى جانب تكلفة بناء قصور الحكم وتحديث القاهرة، الملايين، ولم تكن مصر تملك كل تلك الأموال، فلجأ إسماعيل إلى الاستدانة لتحقيق رغباته، ما أوصل قيمة ديون البلاد بعد 13 عامًا من حكمه إلى 91 مليون جنيه إنجليزي، وهو مبلغ طائل بحسابات ذلك الزمان.
وعندما تعثر إسماعيل في سداد أقساط الديون، لجأ إلى الضرائب، ولما لم تفلح، اضطر إلى الاستدانة مجددًا، فتدافعت البنوك على إقراضه بفوائد باهظة، فأُثقلت البلاد بديون جديدة، ما اضطر الخديوي إلى بيع أسهم قناة السويس بمقابل بخس.
كان من نتائج إفلاس مصر في تلك الفترة، تدخل الدول الدائنة التي أسّست ما عُرف بـ"صندوق الدين" في شؤونها، فعيّنت مراقبين ماليين أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، وأوكلت إليهما مراقبة إيرادات ومصروفات البلاد والعمل على سداد أقساط الديون في موعدها، وانتهى الأمر إلى طلب الدائنين فرض الوصاية المالية على مصر.
ويصف الرافعي ما جرى بقوله إنّ "مسألة الديون هي الجانب المظلم من عهد إسماعيل، لأنها المأساة التي انتهت بتهدم بناء الاستقلال، وتدخل الدول الأجنبية في شؤون البلاد".
استشعرت طوائف الشعب المصري بالخطر الذي يحيق بالبلاد نتيجة تحكم المراقبين الماليين الأوروبيين في مصائر بلادهم، فدعوا إلى اكتتاب عام لسداد قسط الدين الذي تعثرت الدولة في سداده ويبلغ مليون جنيه إسترليني، وتم تحصيله بالفعل وسداده.
لكن أعيان الشعب المصري الذين تدخلوا لإنقاذ البلاد من الوصاية، طلبوا من إسماعيل أن يتعهد بإقامة حياة نيابية كاملة، والعمل على سداد الديون والوقوف أمام التدخل الأجنبي، وهو ما أثار قنصلَي بريطانيا وفرنسا اللذين أنذرا الخديوي وطلبا منه تجاهل تلك المطالب، وإلا فإنهما سيعملان على عزله.
مضى السادات في مسار مشابه لينتهي الأمر باغتياله ووقوع البلاد تحت الهيمنة الأمريكية
في الوقت الضائع استفاق إسماعيل، ورفض إنذار القنصلين، وقرر الانحياز للمطالب الشعبية، وشكل وزارة جديدة تكون مسؤولة أمام برلمان منتخب، فمارست الدول الدائنة ضغوطًا على السلطان عبد الحميد فعزله ونصب خلفًا له توفيق الذي سلّم مصر وقرارها إلى الدائنين الأوروبيين، وعندما ثار عليه المصريون بقيادة الزعيم الوطني أحمد عرابي وطالبوا بتأسيس حكم نيابي وباستقلال القرار الوطني تآمر على البلاد واستعان بالإنجليز في مواجهة جيشه وشعبه فوقعت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي لنحو 70 عامًا.
في كتابه "قصة الاقتصاد المصري"، أجرى أستاذ الاقتصاد الراحل جلال أمين، مقارنة بين ما جرى في عصرَي إسماعيل والرئيس أنور السادات الذي ارتفعت الديون في عهده من 1.7 مليار دولار سنة 1970، وقت رحيل سلفه جمال عبد الناصر، إلى 14.3 مليار دولار عام 1981. أغرق الأول البلاد في مستنقع الدين وانتهى الأمر بعزله واحتلال بريطانيا لمصر، ومضى الثاني في مسار مشابه لينتهي الأمر باغتياله ووقوع البلاد تحت الهيمنة الأمريكية.
لم تتعلّم أي سلطة لاحقة من التجارب لغياب الإرادة وعدم ثقتهم في قدرة البلاد على الخروج من دائرة التبعية
يخلص أمين في كتابه إلى أنّ آثار توسّع مصر فى الاستدانة من الخارج، سواء فى عهد إسماعيل أو السادات وغيرهما، لم تقتصر آثاره على زيادة الأعباء المالية فقط، ولكنه ساهم في تدخلات أجنبية واسعة فى سياسات مصر.
"كان المفترض أن تكون مصر قد تعلمت الكثير من هاتين التجربتين"، يقول أمين، مضيفًا: "إنّ فترات النهضة الحقيقية للاقتصاد المصري طوال القرنين الماضيين، كانت هي الفترات التي تتمتع فيها مصر بدرجة معقولة من استقلال الإرادة".
للأسف، لم تتعلم أي سلطة لاحقة من تلك التجارب، ليس لجهلها بما جرى، بل لغياب الإرادة واعتماد الحكام على أهل الثقة وتجنيب أهل الخبرة والتخصص، فضلًا عن عدم ثقتهم في قدرة البلاد على الخروج من دائرة التبعية التي فرضها الغرب علينا.
(خاص "عروبة 22")