أما "العقلانية العربية" فلم تزل تدور حول نفسها لنحو القرن ونصف القرن، حيث الجدل لا يزال يدور بين الإسلام والحداثة في واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة. فثمة دعوة إلى الخلاص من الخوف المقيم الممانع لصيرورة العقل، باكتشاف طرق لامتلاك الحداثة، والاندراج فيها مباشرة؛ كتجربة كونية تمثّل حصيلة الخبرة الإنسانية المشتركة، وليست مجرد مغامرة أوروبية تتجذر في الفلسفة اليونانية كما تدعي المركزية الغربية، يتعين علينا الوقوف عند حدودها للفرجة عليها، أو محاولة تسوّلها.
وثمة، في المقابل، تيارات تتخوف منها، وتدعو إلى النكوص عما كنا قد اكتسبناه منها في مراحل سابقة، على منوال التيارات السلفية، التي نظرت إلى الإسلام كمعطى جوهري ثابت المعنى، لا يقبل الاختلاف أو التعدد، ولا يخضع لمنطق النزعة التاريخية، إذ يكفي أن نعود إليه كي ننهض دون حاجة لإضافة عناصر غريبة عنه، فإما أن نأخذه كله أو نرفضه كله. ومن رحم تلك التيارات ولدت حركات تكفيرية رأت في الإسلام السائد جاهلية يجب محاربتها، فانفتحت علينا أبواب الجحيم.
دخل العرب العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار والصهيونية التي لا تزال ترمينا بسهامها المسمومة
في هذا السياق يظل الخيار التوفيقي هو قدر الثقافة العربية الذي لا مفر منه، إذ يقينا شر خيارين عدميين:
أولهما هو الاستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجًا مثاليًا ومطلقًا لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار العلموي مطلع القرن العشرين.
وثانيهما هو الإدعاء بخصوصية حضارية مطلقة، هروبًا من كل ما هو إنساني ومعاصر. وهو موقف سلبي غالبًا ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما تثيره من رغبة نفسية في الاختفاء خلف قشرة من التعالي الزائف على الآخر. ولكن ليس مقبولًا أن يظل النقاش حتى اليوم يدور حول مشروعيته، بل يجب أن يدور حول كيفية ممارسته بالنجاعة اللازمة التي تكفي لأن يؤتي ثمره، فالنزعة التوفيقية، كإستراتيجية نهضوية، ليست سهلة ولا ميسورة كما يتصور البعض، ممن يفترضون قيام الذات العربية، وكأنها في استراحة تاريخية، بوضع تراثنا الذاتي، وتراث الآخر الغربي، أمام ناظريها، والانتقاء من بين العناصر الإيجابية في كليهما. بل هي، على العكس، استراتيجية عصية ومراوغة، تفترض مسارات للدمج والتركيب، تتطلب بدورها تحليلًا وتفكيكًا.
ولأنّ التاريخ ليس سكونيًا، بل متدفق. ولأنّ العرب لم يملكوا رفاهية الحصول على تلك الاستراحة التاريخية، بل إنهم دخلوا العصر الحديث تحت ضغط الاستعمار والصهيونية التي لا تزال ترمينا بسهامها المسمومة، فقد تعذر القيام بهذه المهمة، وآلت الممارسة التوفيقية دومًا إلى الفشل. وحتى إذا تحقق بعض النجاح فإنه كان في الأغلب مؤقتًا.
ومن ثم بات المشروع التوفيقي نفسه، وهو صيغة من صيغ التجديد، بحاجة إلى تجديد، فلم يعد الهدف اليوم هو مجرد تجاوز الموقف السلفي الرافض للحداثة، كما كان الأمر قبل قرن من الزمان، بل أصبح المطلوب هو تجاوز الموقف التوفيقي نفسه بين الأصالة والحداثة، والذي ظل، رغم سلامته العامة، موقفًا سكونيًا فرض نفسه على الفكر العربي لقرن ونصف القرن من الزمان دون أن ينتج شيئًا ذا بال، رغم ما استهلكه من مشروعات فكرية قيّمة، وانطوى عليه من اجتهادات بحثية معتبَرة.
يكفي هنا النظر بعين ثاقبة لنلاحظ الفروق الواضحة، على سبيل المثال، بين الثنائيات التي أسس لها فيلسوف من طراز إيمانويل كانط، مثّلت فلسفته النقدية نقطة الذروة في الفكر الغربي، وبين الثنائيات التي دشنها مفكر من طراز زكي نجيب محمود كانت نزعته التوفيقية بمثابة لحظة قصوى في مسيرة تجديد الفكر العربي.
تبقى الاستعارة الثقافية مشكلة مركزية في تكييف الجدل الثقافي العربي
لقد دارت ثنائيات كانط حول مفهوم الحقيقة مباشرة، ولذا كانت ثنائياته أصلية من قبيل: الاستدلال المنطقي مقابل الاستقراء التجريبي، الشيء في ذاته، في مقابل عالم الظواهر. الطبيعة مقابل ما بعد الطبيعة. أما ثنائيات زكي نجيب فدارت ليس في فلك مفهوم الحقيقة، بل في فلك العلاقة بالغرب.
ومن ثم كانت ثنائياته مستعارة كالأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، العقل والنقل. فالمعاصرة هي الثقافة الغربية، والحداثة هي مغامرة الفكر الأوروبي. لهذا نجح الموقف النقدي في تخليص الفكر الغربي من مأزق الإلحاد دون التخلي عن العقلانية، وأخفق الموقف التوفيقي العربي في بلوغ الحداثة دون التخلي عن الأصالة. بالطبع ليست الاستعارة الثقافية هي المشكل الوحيد، فثمة إشكاليات أخرى، لكنها تبقى مشكلة مركزية في تكييف الجدل الثقافي العربي.
(خاص "عروبة 22")