وجهات نظر

العروبة والقومية العربية (3/2)

في الجزء الأول من هذه السلسلة، استعراضٌ توثيقيّ للأحداث التاريخية، بدءًا من تأسيس عصبة العمل القومي عام 1933، مرورًا بالمناقشات التي دارت خلال المؤتمر الذي انبثقت عنه العصبة، وصولًا إلى مضامين البيان الصادر عنه، وما أفضى إليه لناحية التأسيس لفكرة "الحزب الواحد والعقيدة الواحدة".

العروبة والقومية العربية (3/2)

كان من بين الأعضاء الذين انضموا أو واكبوا نشأة عصبة العمل القومي أشخاص سيكون لهم شأن في بلورة الأفكار القومية. ومن بين هؤلاء قسطنطين زريق الأستاذ الجامعي الذي ارتبط اسمه بـالعروة الوثقى والذي كان له أن يبرز بسبب كتابه "معنى النكبة" الصادر عام 1948، والذي سيكون له دور في تأسيس حركة القوميين العرب لاحقًا. ومن بين الذين كانوا على صلة بعصبة العمل القومي زكي الأرسوزي المفكر الذي أعطى للغة العربية المكانة الرئيسية في الوعي القومي العربي، والذي أسس نادي العروبة ثم حزب البعث العربي قبل أن ينصرف عن السياسة والحزبية.

في الوقت نفسه الذي كان قد أسس ميشيل عفلق وصلاح البيطار حركة الإحياء العربي التي ستستعير اسم البعث الذي يُعلن تأسيسه عام 1947، قبل ان يندمج مع الحزب الاشتراكي برئاسة أكرم الحوراني فيصبح حزب البعث العربي الاشتراكي.

منظّرو البعث والقومية العربية لم يكن لديهم ميل لدراسة المجتمعات العربية وأوضاعها الاقتصادية والسكانية

كان حزب البعث قد تأسس في ظل النكبة الفلسطينية، فليس غريبًا أن تصبح القضية الفلسطينية نقطة ارتكاز الحزب الذي جعل شعاره الوحدة والحرية والاشتراكية.

كانت الوحدة تعني كل الخريطة العربية الممتدة من المغرب الأقصى إلى بلدان الخليج والجزيرة العربية، إلا أن منظّري البعث والقومية العربية لم يكن لديهم ميل لدراسة المجتمعات العربية وأوضاعها الاقتصادية والسكانية. والواقع أن انتشار أفكار القومية العربية بصيغتها البعثية كان محدودًا في مصر أو تونس، ولهذا بقي البعث حزبًا مشرقيًا انتشرت خلاياه في سوريا ولبنان والأردن والعراق. وبخصوص شعار الحرية فلم تكن تعني سوى التحرر من الاستعمار وتحرير فلسطين ولم تتطرق أدبيات البعث إلى الحرية الفردية، والحريات العامة وحرية المطبوعات والقول والرأي. وبقيت المصادر الاشتراكية لحزب البعث غامضة خصوصًا أنّ الحزب كان حريصًا على التميّز عن اشتراكية الشيوعيين.

كان منظّرو القومية قد حصلوا على تعليم في جامعات الغرب درس الأرسوزي وعفلق في فرنسا ودرس قسطنطين زريق في أمريكا. كما اجتذبت القومية العربية أطباء ومحامين، إلا أنّ مادة البعث كانت من أبناء الطبقات الوسطى وأبناء الأرياف وأبناء الأقليات الدينية المسيحية والإسلامية. واجتذب الحزب الطلاب والمدرسين الحاصلين على شهادات متوسطة كما انجذب بعض المنتمين إلى الكلية الحربية، وكانت شعارات الحزب، مثل الأحزاب الأخرى، تغذّي مخيّلات الشباب بالوصول إلى السلطة عبر النضال الحزبي.

أنظمة القومية وصلت عبر الانقلابات العسكرية، وعطّلت الحياة الديمقراطية وأقامت سلطة الحزب فوق القانون

وخلال عقدي الأربعينات والخمسينات كانت السجالات بين الشيوعيين والقوميين العرب والقوميين السوريين قد استنفدت الطاقات الفكرية وصار الأدباء والشعراء يُعرفون بانتمائهم الحزبي بدل أن يشار إليهم بخصائصهم الفنية والمدرسية.

وقد استطاع حزب البعث أن يتخطى الأزمة التي واجهته في عهد العقيد الشيشكلي، واستطاع أن يضاعف المنتمين إليه وخصوصًا من خلال انتشار خلاياه في صفوف الطلاب وأبناء الأرياف. ولكنه واجه بعد العدوان الثلاثي على مصر زعيمًا للقومية العربية متمثلاً بجمال عبد الناصر الذي اكتسب تأييدًا وعطفًا في المشرق فاق ما يملكه الحزب من تأييد، فانحنى للزعامة الناصرية ووافقت القيادة على حلّ الحزب لقاء الوحدة بين مصر وسوريا. لكن ذلك لم يكن إلا فصلاً قصيرًا، فاستمر نشاط الحزب في العراق والأردن ولبنان، واستمرت خلايا البعث العسكري في الجيش السوري في التنسيق والتواصل، وعاد الحزب إلى نشاطه بعد الانفصال، وفي عام 1963، وصل إلى السلطة، عبر الانقلابات العسكرية في كل من سوريا والعراق.

أظهرت محادثات الوحدة عام 1963، بين قيادات مصر والعراق وسوريا، انعدام الثقة بين عبد الناصر من جهة وقيادات البعث من جهة أخرى. وشهد العالم العربي صراعًا بين طرفي القومية العربية البعثية في العراق وسوريا، والناصرية من جهة أخرى التي كسبت في عقد الستينات أنظمة تدين لها بالولاء في كل من الجزائر واليمن ثم ليبيا والسودان في نهاية العقد.

استثمرت هذه الأنظمة القضية الفلسطينية من أجل اكتساب المشروعية الجماهيرية

وبالرغم من الخلافات على الزعامة العربية، إلا أنّ أنظمة القومية العربية كانت تتشابه في الصميم، فقد وصلت جميعها إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، وعطّلت الحياة الديمقراطية، وفرضت سلطة الحزب الواحد، وأقامت سلطة الحزب فوق القانون. وطبّقت إجراءات التأميم والمصادرة التي كانت أقرب إلى إجراءات انتقامية من الملاكين والصناعيين، وفرضت حالة طوارئ دائمة، وجعلت لأجهزة الأمن السلطة على المواطنين. وجعلت من قضية فلسطين وادعاء تحريرها ذريعة لقمع الآراء المعارضة وتكديس الأسلحة، إلا أنّ حرب حزيران والهزيمة المدوية أظهرت خواء الشعارات والادعاءات. فلم تكن الهزيمة عسكرية فحسب ولكنها كانت هزيمة لعقدين من الشعارات التي تعبّر عن أيديولوجية استخدمت لإقامة أنظمة الاستبداد وقمع الحريات. ومع ذلك ورغم الهزيمة المدوية في 1967، استمرت هذه الأنظمة بقوة أجهزتها الأمنية. وإذ ظهرت المقاومة الفلسطينية إثر الهزيمة، فإنّ الأنظمة جعلت دأبها احتواء المقاومة أو الصدام معها.

إذا استعدنا تجربة أو تجارب أحزاب القومية العربية وأنظمتها سنجد أنها برزت ونمت وتسلّطت في زمن الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي زمن الحرب الباردة. وقد استثمرت هذه الأنظمة القضية الفلسطينية من أجل اكتساب المشروعية الجماهيرية.

وفي إطار الصراع العالمي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، انحازت أنظمة القومية العربية إلى جانب الاتحاد السوڤياتي الذي مّدها بالسلاح وأعطاها الغطاء الدولي في صراعه مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.

لقد عطلت هذه الأنظمة فرص الوصول إلى حل عادل للشعب الفلسطيني في صراعه مع إسرائيل، وبالرغم من سقوط خياراتها الاستراتيجية والأيديولوجية بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي، إلا أنها أصرّت على الاستمرار في السلطة التي أصبحت مجرد أجهزة قمع واستبداد.


لقراءة الجزء الأول: العروبة والقومية العربية (3/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن