ذلك أنّ القول الأول يعني أنّ كلًا من التاريخ والمجتمع ينطبعان في عمل الروائي بكيفية مباشرة، فأنت، على سبيل المثال، حين تقرأ "الخسارة العظمى" لإميل زولا فأنت تطالع صورة المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر، والأمر ذاته بالنسبة للمجتمع البريطاني في القرن ذاته وقد قرأت "أوليفر تويست" أو "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز. وحين تقرأ "الحرب والسلم" لتولستوي، فأنت أمام حديث مباشر عن تاريخ روسيا، وأحداثها الكبرى، في القرن ما قبل الأخير. ورُبّ قائل، يذهب به الجموح في الانتصار لهدا الرأي، إلى الاعتقاد بأنّ رواية مرغريت ميتشيل الشهيرة ("ذهب مع الريح") تأريخ للحرب الأهلية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يتوهم العديدون.
في عبارة أخرى، فإنّ الأخذ بالفكرة التي تقضي بأنّ الروائي مرآة للتاريخ والمجتمع تقوم بارتكاب خطأين كبيرين شنيعين وشائعين. الخطأ الأول هو الجهل التام بطبيعة عمل كل من التاريخ والمعرفة التاريخية من جانب، ومعنى وطبيعة المجتمع، من جانب آخر. والخطأ الثاني هو تجاهل العملي الإبداعي للروائي - أقصد بذلك بناء الروائي لعالم قوامه شخصيات روائية، هو من يقوم بتركيبها وتجريده من صفة الإبداع الروائي.
الروائي يقوم بتركيب مجتمع هو غير ذلك المجتمع الذي يتحدث عنه عالم الاجتماع
ولعلي أضيف، في مزيد توضيح قد يقرب من السذاجة: إنّ الروائي يقوم بنسج خيوط شخصية روائية ثم إنه مهما حاول أن يكون ناقلًا أمينًا لشخصية معلومة كان لها وجود مادي فعلي فإنّ الشخصية الروائية التي تحضر في روايته هي غير الشخصية التاريخية أو الفعلية التي يتحدث عنها. إذا لم يتم الانتباه إلى هذا المعطى الأولي، والبسيط في ذاته، فانّ معنى الرواية نفسه يزول، يندثر. لا وجود للرواية إلا مع وجود خيال الروائي وفعالية الكاتب الإبداعية. وفي عبارة أخرى: الرواية شيء والكتابة التاريخية شيء آخر.
يتعيّن علينا، من جهة أخرى، أن ننتبه إلى حقيقة أولية، بسيطة، أخرى. هذه الحقيقة هي أنّ "المجتمع" كما يصوغه عالم الاجتماع (ظواهر اجتماعية، أنماط سلوكية قابلة للفحص...) هو غير المجتمع كما يبدو لعموم الناس، أو كما يتصور عموم الناس أنهم يعرفونه معرفة دقيقة لا لشيء إلا لأنهم يعيشون داخله. أقصد بذلك أنّ عالم الاجتماع يتحدث عن المجتمع وقد قام بتركيبه تركيبًا عقليًا يجعله قابلًا للمعرفة العلمية، وقد أخضعه لشروط المعرفة الاجتماعية ولقواعد علم الاجتماع. وفي هذا المعنى يبدو من الجلي أنّ عالم الاجتماع هو غير الروائي، بمعني أنّ الروائي، عندما يتحدث عن مجتمع ما أو ينقل مشاهد من مجتمع ما، فهو يفعل ذلك بموجب فعاليته الروائية.
لا يمكن للروائي، في واقع الأمر، أن يكون مرآة للمجتمع وإنما هو صدى لانفعال مع المجتمع. الروائي، في ممارسته الروائية يقوم بتركيب مجتمع هو غير ذلك المجتمع الذي يتحدث عنه عالم الاجتماع. مثلما أنّ الروائي لا يتحدث إلا عن المجتمع كما قام برسم عناصره وبتركيبها على النحو الذي تقتضيه طبيعة العمل الروائي.
لكل من التاريخ والمجتمع والرواية شروطه ومقوماته
هذه حقيقة ابستمولوجية، ومعطى معرفي نستفيده من التطور الحاصل في العلوم الإنسانية فنفهم بموجبه طبيعة كل من المعرفة التاريخية والمعرفة الاجتماعية (نسبة إلى علم المجتمع/ ونسبة إلى "المجتمع" كما يركبه عالم الاجتماع ويتحدث عنه). لا ضير في تكرار القول إنّ التاريخ، والمجتمع، والرواية أطراف ثلاثة كل منها متميّز عن الآخر ومغاير له، ولكل من هذه الأطراف الثلاثة شروطه ومقوماته.
في هذا المعنى يقول عالم السيميائيات والروائي الإيطالي أمبرتو ايكو (والشهير بروايته، وقد كانت موضوعًا لفيلم شهير هو" اسم الوردة") ما معناه: لستُ في عملي الروائي خادمًا للتاريخ ولا تستهدف روايتي خدمة المعرفة التاريخية، بل إنني أسخّر التاريخ لخدمة عملي الروائي. هذا قول باحث أنفق من عمره أزيد من أربعة عقود في البحث والتنقيب في تاريخ العصور الوسطى الإيطالية خاصة والغربية عامة.
فما هي ملامح كل من المجتمع والتاريخ، أو البعض منها على الأقل، كما تتجلى في الكتابة الروائية لنجيب محفوظ؟
ذلك حديث آخر.
(خاص "عروبة 22")