العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

هل يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يحلَّ محلَّ الموهوبين البشر؟ (2/2)التفوّق البشري المحض

مهما تقدّم الذكاءُ الاصطناعيّ نظريًّا وعمليًّا، فهو يظلُّ "اصطناعيًا"، يعتمد على تقدّم البشر في تقدّمِ ذكائِه. حقيقةٌ تفرضُ نفسَها... مهما اختلفنا أو اتفقنا حول إمكانيات الذكاء الاصطناعي سلبًا وإيجابًا، فالقضيةُ برمّتها ترتبط في أساسها بالتفكير الإبداعي البشري والتفكير النقدي، اللذَيْن يشتركان في توليد الأفكار، وابتكار الحلول، وتجاوز القيود التقليدية، ومن ثَمّ التسابق نحو ترسيخ الأصالة المعرفيّة؛ إضافةً إلى اتخاذ القرارات المستنيرة؛ وتعميق التأمّل في الأدلّة والافتراضات لإصدار الأحكام. الأمر الذي يؤدّي إلى المزيد من تطوير المهارات البشرية الذكية، والارتقاء بصناعة التغيّر الحضاري بما يشمله من التطوير الآلي...

هل يمكن للذكاء الاصطناعيّ أن يحلَّ محلَّ الموهوبين البشر؟ (2/2)
التفوّق البشري المحض

لكي تتجلّى مواهبُ الخبراءِ البشر المتنوّعة، فهم يتميّزون عن الآلات الذكية بمزايا أساسية. مثل: أفق معرفي واسع في مقابل المعرفة المحدودة للآلة، محصورةً في خطوات الحلول المُنَمْذَجَةِ لها؛ وتوافر الإلهام والإبداع البشري المستمر، في مقابل عدميّة الإلهام والإبداع الأصيل عند الآلة. كذلك، تراكم المعرفة العلمية والتقنية والذوقية والفطرة البديهية عند الإنسان، بينما ترتبط الآلة بالتقنية البحتة وعمليات "اعرف-كيف" فقط (know-how). لذا، فالإنسان قادرٌ على التكيّف مع بيئات الأعمال المختلفة، بينما تنعدمُ هذه الميزةُ في الآلة الذكية، ودائمًا هِيَ في حاجةٍ ماسّةٍ للأوامر.

أهمّ مصدر للمعرفة الخبراء البشر وهُم نادرون وتدريبُهم مُكْلِف وإمكاناتُهم محدودة

إنّ المتخصّصين في الذكاء الاصطناعي يُدركون جيّدًا نقاطَ ضعفِهِ في تقدّمِهِ، ويُراعونَها، على الرَّغمَ من تطوّراتِهِ وخدماتِهِ الهائلةِ للبشريّة... ويمكن حصر هذه النقاط في ستٍّ رئيسية:

1 - وجودُ عقبةٍ في اكتسابِ المعرفة: إذ يتعلّق الأمر باستخراج المعرفة، وهيكلتِها، وتنظيمها، من مصدرٍ واحدٍ أو أكثر، ثم نقلها إلى قاعدة المعرفة، وأحيانًا إلى مُحرّك الاستدلال، ما يعتبرهُ العديدُ من الباحثين والممارسين عائقًا رئيسيًا، بخاصة أنّ أهمَّ مصدرٍ للمعرفة هم الخبراءُ البشرُ أنفسُهم، وهُم نادرون، وتدريبهم مُكْلِف، وإمكاناتُهم محدودة. مع أنّ البشر قد يكونون خبراء في حلّ المشكلات، إلّا أنهم قد لا يفهمون الكثيرَ عن كيفية اتخاذِهم القرارات.

2 - الحاجةُ إلى أجهزةٍ حاسوبيةٍ فائقةِ السرعة: قوّة الحوْسبة أساسيةٌ لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، فهي تُساعد أنظمةَ الحاسوب على معالجة المهامّ وتنفيذها. وتتطلّب هذه التطبيقات مواردَ حوْسبةٍ ضخمةً لإدارة خوارزميات مُعقّدة، ومجموعات بيانات ضخمة؛ ليتمّ تنفيذُ البرامج ونقلُ الملفات بشكلٍ أسرع، وتقليلُ أوقات الانتظار للحسابات المُعقّدة، وغير ذلك... وبالتالي، تحسين الإنتاجية بشكلٍ عام.

غالبًا ما تتضمّن أنظمة التعلّم العديد من المكوّنات المُترابطة التي تتفاعل جميعها بطرق معقّدة جدًا

3 - تصميمُ الأنظمةِ التي تتعلّم مُعقّدٌ للغاية: خصوصًا الأنظمة التي تتضمّن الذّكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي الفائق، فهي حقًّا معقّدةُ التصميم للغاية، نظرًا للطبيعةِ المُعقّدةِ لمُكوّناتِها، والتفاعلاتِ غير المتوقّعة التي قد تحدُث. ينبع هذا التعقيدُ من العلاقات غيرِ الخطيّة بين العناصر، واحتمالية حدوث سلوكيّات طارئة، فيصعبُ توقّع أفعالها والتحكّم فيها. غالبًا ما تتضمّن أنظمةُ التعلم العديدَ من المكوّنات المُترابطة، مثل الخوارزميات، ووحدات معالجة البيانات، وحلقات التغذية الراجعة، والتي تتفاعل جميعها بطرقٍ معقّدةٍ جدًا.

4 - نقصُ الخبرةِ والمعرفةِ في العالَم التجاريّ: قد يُعيقُ نقص الخبرة والمعرفة التجارية نجاحَ أيّ شركةٍ بشكلٍ كبيرٍ - وبخاصةٍ شركات التطوير التكنولوجي التي تُنفقُ أموالًا طائلةً على مشاريعها - ممّا يؤدّي إلى ضياعِ الفُرَص، والضغطِ الماليِّ، وزيادةِ خطرِ الفشل. ويتجلّى ذلك بأشكالٍ مختلفة، بدءًا من استراتيجيات التسويق والمبيعات غير الفعّالة، وصولًا إلى ضعفِ الإدارةِ المالية، وصعوبةِ التعامل مع المنافسة.

الذكاء البشريّ مستعصٍ على الفهم الكامل ولا يمكن في أغلب الأحوال إلا ملاحظة مظاهره

5 - البحثُ في الحوْسبة الجُزَيئِيَة حديثُ العهد نسبيًّا، وشاقٌّ ومُكلف: هذا مجالٌ يستكشف استخدام الجزيئات مثل: "الحمض النووي، والببتيدات (peptides) وهي سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينيّة"، لمعالجة المعلومات، محاكيةً بعض وظائف الحواسيب التقليدية؛ لتستفيد هذه الحوْسبة من قدرات الجُزَيئات الدقيقة، بما يسمح بإجراء عمليات حسابية متوازية هائلة في مساحة صغيرة؛ تُركّز فيها الأبحاث على دمجِ هذه التقنية مع الأنظمة البيولوجية، واستكشافِ إمكاناتها في مجالاتٍ عِدّة. وبدلًا من رقائق السيليكون، تستخدم الحوْسبةُ الجُزَيئيةُ جُزَيئاتٍ بيولوجيةً دقيقةً بأعدادِها الضخمة، وتفاعلاتها المُعقّدةِ كأساسٍ للحوْسبة، حتى تستوحيَ الحوسبةُ الجُزَيئيةُ إِلهامَها من الأنظمةِ البيولوجية، مثل طرائقِ التشفيرِ، والتحفيز للتفاعلات...

6 - لا يمكننا فهم الذكاء: الذكاءُ البشريّ مستعصٍ على الفهم الكامل، ولا يمكن في أغلب الأحوال إلا ملاحظةُ مظاهرِه؛ مثل القدرة على التجريد، والمنطق، والاستيعاب، والوعي الذّاتي، والتعلّم من التجارب، والتكيّف مع البيئات، والمعرفة العاطفية، والبديهية، والاختيار، والقرار المُستنير؛ إلخ... يتفق العلماء اليوم على أنّ كلًا من الوراثة، والبيئة، يؤثّران في النموّ الحيوي للدماغ، والنموّ المعرفي للعقل، وهو ما يُحدِّد في النهايةِ مستوى الذكاء. فقد "تُزوّدنا جيناتُنا بقدراتٍ فكرية، لكن بيئتنا تُحدّد مدى تحقيقنا لإمكاناتنا".

التفكير المنطقيّ المبنيّ على السبب قوة عظيمة للإنسان لا يملكُها الذكاء الاصطناعي

يتعلّقُ الذكاءُ البشريّ بالفهمِ، والتدقيقِ في الارتباطات والاختلافات، والأسبابِ والنتائج، والنظر في الإيجابيات والسلبيات الظاهرة والباطنة، واستكشافِ غوامضِ الأشياء، والتفكيرِ في الماوراء... فضلًا عن القدرةِ على تقديمِ حلولٍ لمشاكلَ جديدةٍ لم تواجِه البشرَ سابقًا، ولا خبرة لهم بها... إنّه التفكيرُ المنطقيّ المبنيّ على السبب، والنتيجة قوةٌ عظيمةٌ للإنسان لا يملكُها الذكاءُ الاصطناعي سواءَ قياسًا إلى مشاكلَ سابقة، أو مشاكلَ جديدة كليًّا، من خلال التفكير الإنساني الموهوب... لا يملكُ الذكاءُ الاصطناعي القدرةَ على التعميم التي يملكها الإنسانُ لإنتاج الحلول من خلال التفكير المجرّد. ويحتاج الذكاءُ الاصطناعي لفترةٍ طويلةٍ للتعلّمِ والتدريبِ المكثّف، لاستلهامِ بعضِ قدراتِ التفكيرِ المجرَّد، وفي مناطق محدّدة، يتمُّ تدريبُه عليها، خلافًا للإنسانِ المُفكِّر المُبدِع.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن