ففي لبنان شهدت البلاد حالة من الاستقطاب الواسع ضد اللاجئين السوريين في أعقاب عملية خطف وقتل أحد قيادات "القوات اللبنانية"، وصار وجود اللاجئين السوريين بهذه الأعداد الكبيرة في بلد صغير مثل لبنان يعاني ليس فقط من أزمة اقتصادية إنما من انقسامات سياسية وطائفية مصدر قلق ومحل استقطاب، وبات الوجود السوري الكثيف يُحسب كجزء من الاستقطاب السياسي والمذهبي، وإذا أضفنا أنّ السوريين "شعب شغيل" بطبيعته فإنهم باتوا يزاحمون اللبنانيين في كل المجالات ويقدمون نموذجًا لعمالة رخيصة اتهمها البعض أنها فاقمت مشكلة البطالة في لبنان.
ورغم أنّ جوهر وجود اللاجئين السوريين لم يكن بغرض حزبي أو سياسي أو طائفي، إنما هم كانوا ضحايا حرب أهلية دمّرت بيوت كثيرين، ولم يكن أمامهم إلا الهروب خارج الحدود، ولكن ضعف الدولة في لبنان وانتشار ظواهر التهريب أدى إلى تسييس جانب من حضور هؤلاء اللاجئين وانخراط بعضهم في تنظيمات التطرف والإرهاب وتورط البعض الآخر مع عصابات الجريمة المنظّمة، ودخل أكثر من نصفهم لبنان بطريقة غير نظامية.
صحيح أنّ في لبنان كثيرين يومنون بالعروبة وبالمصير العربي المشترك، وهناك أيضًا من يؤمنون بأنّ الوحدة هي بين سوريا ولبنان (الحزب السوري القومي)، لكن هذا لا يلغي تفاصيل ونتائج أي تفاعل بين الشعوب العربية يتم فيه تجاهل الأزمات الاجتماعية والسياسية المترتبة على وجود أبناء دولة أخرى خاصة إذا اقتربت أعدادهم من أعداد أهل البلد كما هو حادث بالنسبة للسوريين في لبنان.
تاريخ مصر أعطى لها حضورًا حقيقيًا في العالم العربي والمنطقة لأسباب حضارية ومنها قبولها للآخر
أما في مصر فقد ظهرت مؤخرًا حملة ضد وجود السودانيين، وتحدث البعض في الإعلام عن أزمات متخيّلة وغير حقيقية قيل إنهم تسببوا فيها، مثل أنهم أحد أسباب ارتفاع إيجارات الشقق في مصر وهو أمر لم يجرؤ أن يقوله أحد في الإعلام أثناء رواج السياحة الخليجية في نهايات القران الماضي حين كانوا يستأجرون شققًا بأسعار مرتفعة ولم يقل أحد إنهم تسببوا في رفع أسعارها لأنّ الأمر يخضع للعرض والطلب وكان وجودهم يُعتبر وقتها ظاهرة إيجابية وترويجًا للسياحة.
على خلاف لبنان، فإنّ مصر تتميّز بعدد سكانها الكبير وتنوّع أنشطتها الاقتصادية واندماجها الوطني، ولكنها تعاني مثله من أزمات اقتصادية ومن معدلات فقر هي الأعلى في العالم العربي، ومن هنا بدا الأمر غريبًا أن يستهدف البعض السودانيين الذين لم يغيّروا تركيبة مصر الديموجرافية منذ أن عرفت البلاد من عقود طويلة جالية سودانية ضخمة تُقدّر بالملايين وكانت مندمجة بشكل كامل في النسيج الاجتماعي للبلاد.
ولذا بدا أمرًا صادمًا قيام البعض عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي باستهداف السودانيين، خاصة أنّ معظم هؤلاء الفارين من جحيم الحرب في السودان لهم أقارب مقيمون في مصر، وطبيعي أن تتحرى السلطات المصرية عنهم، دون تحريض أو تعميم للأخطاء.
إنّ مصر ليست بلدًا نفطيًا ولا دولة ثرية تمتلك أموالًا تنفقها لتأمين دورها خارج الحدود، إنما هي تمتلك تاريخًا شعبيًا من القبول والتسامح والتنوع الثقافي أعطى لها حضورًا حقيقيًا في العالم العربي والمنطقة لأسباب حضارية ومنها قبولها للآخر، وهو ما ستفقده في حال أصر البعض على تقديم هذه الصورة عن مصر التي فيها كثير من التحريض على العرب المقيمين وخاصة السودانيين.
الانتماء العربي لا يلغي الانتماء الوطني إنما هو نابع منه ويبني على النجاحات التي يحققها
السودان قريب لمصر مثلما سوريا قريبة للبنان، ولكن هذا لا يعني إلغاء القواعد المنظّمة لقدوم اللاجئين في كلا البلدين إنما يعني رفض خطاب تحميلهم كل مشاكل البلاد - من إيجار الشقق حتى أزمة الديون - الذي يبثه البعض بحق اللاجئين الذين دفعت محنة إنسانية كبرى غالبيتهم الساحقة إلى الهجرة وليس أي نوايا شر تجاه البلد المضيف، وهو أمر يجب وضعه في الحسبان عند وضع قواعد لتنظيم قدومهم.
إنّ الانتماء العربي لا يلغي الانتماء الوطني إنما هو نابع منه ويبني على النجاحات التي يحققها، فدولة القانون التي تنظّم شؤون مواطنيها وأيضًا شؤون القادمين إليها بقواعد واضحة هي وحدها القادرة على أن تستضيف في مناخ صحي أي وافدين لها سواء كانوا عمالة هي في حاجة لهم أو لاجئين اضطرتهم ظروف الحرب والمحن الداخلية أن يذهبوا لبلد عربي آخر، أما البلاد التي تغيب فيها سلطة الدولة ولا تعرف قواعد دولة القانون فإنها ستنتج علاقة غير صحية بين شعبها وبين هؤلاء اللاجئين كما نشاهد حاليًا في أكثر من بلد عربي.
(خاص "عروبة 22")