وجهات نظر

البحث عن الحقيقة.. والحق في المعرفة

في مشهد، بدا وكأنه مشهد "النهاية" في فيلم مثير، خرج جوليان أسانج؛ مؤسس موقع "ويكيليكس" قبل أيام من سجنه البريطاني شديد الحراسة إلى محكمة أمريكية في جزيرة نائية بالمحيط الهادئ، ومنها إلى بيته في أستراليا بعد أربعة عشر عامًا من المطاردة القانونية (المعلنة)، والأمنية (غير المعلنة). احتجاز وإقامة جبرية، وما يقرب من سبع سنوات داخل مبنى سفارة الإكوادور طلبًا للجوء السياسي (انتهت بطرده استجابة للضغوط الأمريكية)، وخمس سنوات في سجن بيلمارش البريطاني المخصص للمجرمين شديدي الخطورة، ناهيك عن محاولات الاغتيال؛ معنويًا باتهامات الجرائم الجنسية المعلبة، أو جسديًا بعمليات استخباراتية منوعة. بالمناسبة لم يفتهم اتهامه بمعاداة السامية بالإشارة إلى تأييد أحد شركائه (يهودي سويدي) للحقوق االفلسطينية!

البحث عن الحقيقة.. والحق في المعرفة

ربما لا يعادل فضائح غطرسة القوة الأمريكية التي كشفتها وثائق "ويكيليكس"، غير ما أبانته الملاحقة القضائية الأمريكية له من غطرسة. فالرجل ليس مواطنًا أمريكيًا، وملاحقته بهذه الطريقة، وتوجيه اتهامات له تصل عقوبتها إلى ما يزيد عن قرن من الزمان لم تكن في معناها النهائي أكثر من محاولة لتجريم إقدام الصحافة في أي مكان في العالم على كشف جرائم الأجهزة الأمنية الأمريكية. وهو الأمر الذي دفع بعدد من المؤسسات الصحفية الأمريكية المرموقة قبل عامين إلى توجيه رسالة مفتوحة إلى إدارة بايدن تطلب إسقاط التهم الموجهة إلى أسانج، على اعتبار أنّ "توصيف مثل هذه الأنشطة ذات الطابع الصحافي على أنها جريمة يُشكّل سابقة خطيرة تهدد بتقويض التعديل الأول للدستور وحرية الصحافة".

ربما كانت مصادفة، ولكنها دالة أن يشتهر "ويكيليكس" بما نشره (أبريل 2010) من تسجيل مصوّر يُظهر مروحية عسكرية أمريكية من طراز أباتشي وهي تطلق النار على صحافيين وعدد من المدنيين العراقيين في أحد شوارع بغداد عام 2007، وتقتلهم. (هناك وثائق أخرى عن قصف مساجد، وتعامل وحشي مع مدنيين).

لا أحد يمكنه أن يتجاهل أهمية نشر الوثائق الكاشفة لسوء استخدام السلطة أو القوة مهما كانت وسيلة الوصول إليها

صحفيو "رويترز" الذين استهدفتهم الأباتشي الأمريكية يومها، كانوا بحكم وظيفتهم يبحثون عن الحقيقة، وهي الوظيفة ذاتها التي حاولت "ويكيليكس"، سواء اتفقت أو اختلفت معها أن تقوم بها. وكان لذلك في الحالتين ثمنه.

صحيحٌ أنّ ما أقدم عليه جوليان أسانج وصحبه قبل ثمانية عشر عامًا لم يكن عملًا صحفيًا "تقليديًا"، مثلما هو الحال فيما فعله صحافيا الـ"واشنطن بوست" (بوب وودوارد ومايكل برنشتاين)، حين كشفا فضيحة تجسس ريتشارد نيكسون (الرئيس) على مقر الحزب الديموقراطي في فندق ووترجيت (1974)، فأطاح تحقيقاتهم الصحفية بالرئيس، أو ما فعله سيمور هيرش في الـ"نيويوركر" (1969) حين كشف الفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي في قرية ماي لاي الفيتنامية، فساعدت تحقيقاته الصحفية، إلى جانب عوامل أخرى بالطبع في إنهاء واشنطن لحربها العبثية في البلد الأسيوي البعيد، إلا أنني لا أحسب أنّ التفاصيل، بما فيها مواجهة أسانج مع البنتاجون تختلف كثيرًا عن ما فعلته ناشرة الـ"واشنطن بوست" (كاثرين جراهام)، ورئيس تحريرها (بن برادلي) حين قررا بداية سبعينيات القرن الماضي نشر ما سُرب إليهم من وثائق سرية للبنتاجون، رغم تهديدات وزير الدفاع القوي يومها (روبرت ماكنمارا)، ورغم قرار من النائب العام بوقف النشر "الذي يهدد الأمن القومي، والمصالح العليا للبلاد". ورغم أجواء هيستريا سياسية كانت تسمح بالتشكيك في الولاء الوطني للمعارضين، تحت لافتة "الحرب على الشيوعية".

في التفاصيل أيضًا، وكما جرى في كل التجارب "الصحافية" المشابهة، كان أصحاب الضمائر الحية في الأجهزة الأمنية أو الحكومية ذاتها، والذين لم تتحمل ضمائرهم ما تكشف أمامهم من انتهاكات أو فساد هم المصدر الرئيس للوثائق التي كان ينشرها أسانج ورفاقه. من بين هؤلاء تشيلسي (برادلي) مانينج، التي كانت تعمل ضمن القوات الأميركية بالعراق ونجحت فى تسريب مئات الآلاف من الوثائق قبل أن تُعتقل وتُحاكم أمام محكمة عسكرية.

لا أحد يمكنه أن يتجاهل أهمية نشر الوثائق (الكاشفة لسوء استخدام السلطة أو القوة)، مهما كانت وسيلة الوصول إليها، كما لا أحد بإمكانه التشكيك في (حق الناس في المعرفة). وإذا كان تاريخ الصحافة سيذكر ما أحدثته تلك التحقيقات الصحافية للواشنطن بوست والنيويوركر من أثر سياسي لا يمكن تجاهله، فالحاصل أنّ ما أحدثته "ويكيليكس"، رغم المطاردات الأمنية والقانونية لم يكن أبدًا بأقل أثرًا، وإن كان بحكم طبيعة الموقع "عولميًا"، إذ لم يقتصر ما نشرته "ويكيليكس" على الوثائق الأمريكية بل طالت في حينه ما يصل إلى مائة دولة.
عربيًا كلنا نعرف أنّ الفضائح خلف أسوار القصور المغلقة في النظم الاستبدادية الأمنية هو من قبيل الأمر المعتاد

أطاحت "ويكيليكس"، أو بالأحرى ما كشفته وثائقها بحكومات وسياسيين في غير مكان من هذا العالم الواسع (كينيا وتنزانيا والدانمارك مثالًا). بالمناسبة شيء من هذا حدث أيضًا نتيجة لنشر "وثائق بنما"، في عمل صحفي مشابه.

عربيًا ما نشرته "ويكيليكس" كان فاضحًا، وإن لم يكن صادمًا فكلنا نعرف أنّ الفضائح خلف أسوار القصور المغلقة في النظم الاستبدادية الأمنية هو من قبيل الأمر المعتاد. ولكننا صحفيًا على الأقل نذكر تلك الوثائق التي تتعلق بشراء ذمم صحفيين، أو بالأحرى بصفقات أولئك الذين لم يترددوا في عرض أقلامهم في سوق نخاسة تعرفه العلاقة بين أصحاب الكلمة وذوي السلطة أو المال على مدى تاريخنا كله.

وبعد،،

فحين سمعت جو بايدن قبل أيام يهاجم المحكمة الجنائية الدولية، ويرى أنه لا يحق لها محاسبة المسؤولين الإسرائيليين على جرائمهم في غزّة، تذكرت ما قاله جوليان أسانج في حديث متلفز (أكتوبر 2010) من أنه يأمل أن يؤدي نشره لوثائق الحرب الأمريكية في العراق إلى اعتبار أنّ ما قام به جورج دبليو بوش هناك يُمثّل "جرائم حرب"، وهو أمر، كان من الطبيعي (والمؤسف) بحكم اختلال موازين العدالة والقوة في هذا العالم أن لا نراه يحدث أبدًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن