تشير المعطيات الميدانية والتقارير إلى أنّ قطاع غزّة دخل المرحلة الخامسة من المجاعة وفقًا لـ"التصنيف المرحلي المُتكامل للأمن الغذائي" (IPC)، و"نظام الإنذار المبكّر بالمجاعة" (FEWS NET)، وهي المرحلة الأكثر خطورةً وكارثيّةً، تنهار فيها آليات البقاء على قيد الحياة.
وتتسارع الوفيّات النّاجمة عن الجوع وسوء التغذية، في ظلّ انعدام شبه تام للماء والغذاء والدواء، ما تسبّب في استشهاد 111 فلسطينيًا منهم 76 طفلًا بسبب الجوع وسوء التغذية، و1021 فلسطينيًا أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء أو المساعدات، وإصابة أكثر من 6500 آخرين. ولا يقتصر التجويع على الأطفال والأمهات والحوامل وكبار السن، بل بات يشمل فئاتٍ قادرةً على العمل، بما في ذلك العاملون في القطاع الصحي والدفاع المدني والصحافيون، ممّا يُوسّع دائرة الخطر.
وقال مدير "شبكة المنظمات الأهليّة الفلسطينيّة" في غزّة أمجد الشوّا، خلال مؤتمر صحافي للمنظمات الأهلية والحقوقية، في رام الله وغزّة، إنّه منذ 2 مارس/آذار الماضي، أغلق جيش الاحتلال المعابر ومنع دخول المساعدات كافّة وبدأت المواد الغذائية والطبية بالنفاد، بحيث توقّفت المخابز والتكيّات عن العمل و"بتنا نعيش على وجبةٍ واحدةٍ يوميًا في أفضل الأحوال".
وأضاف أنه خلال الأيام الماضية "تهاوَت الأجساد وطالت المجاعة القطاعات كافّة، وبتنا نشهد تساقط نساء وشباب وأطفال في الشوارع. إنّه تجويع مُمنهَج وتضليل للمجتمع الدولي من خلال فرض آلية "مؤسّسة غزّة الإنسانية" التي يعمل فيها مرتزقة حوّلوا مراكز التوزيع بدعمٍ من جيش الاحتلال إلى كمائن موت، حيث استشهد 1070 من المتوجّهين للحصول على المساعدات بالإضافة إلى مئات الجرحى".
وتابع: "يُخاطر المواطنون للذهاب إلى تلك المناطق التي يُسيطر عليها الاحتلال بشكلٍ كامل، لعلّهم يعودون بكمياتٍ من الطعام تسدّ رمقهم وتُبقيهم على قيد الحياة، لكن في الكثير من الحالات يعودون جثامين أو جرحى إلى خيام البؤس".
50 ألف امرأة حامل و55 ألف رضيع
وأوضح الشوّا أنه، جرّاء هندسة التجويع في قطاع غزّة "هناك 50 ألف سيدة حامل من دون طعام ممّا يهدّد الأجنّة، و55 ألف طفل رضيع لا تستطيع أمهاتهم إرضاعهم ولا الحصول على الحليب الصناعي، كما أنّ 110 آلاف من كبار السنّ من دون غذاء ولا دواء، و90 ألف شخص من ذوي الإعاقة بلا طعام".
وبَيَّنَ أنّ "900 ألف طفل يعيشون سوء التغذية بتفاصيلها وأوجاعها، وسيكون لسوء التغذية آثار بالغة على هؤلاء الأطفال الذين فقدنا بعضًا منهم، وأخشى أن يكون جيل كامل مُهدّدًا بتأثيرات سوء التغذية إذا لم تدخل المساعدات فورًا بأصنافها كافّة، وأن تدخل وفود طبية متخصّصة للتعامل مع حالات سوء التغذية".
تعطيش مُمنهَج
وقال الشوّا إنّ التعطيش جريمة جديدة تُضاف الى سجل الإبادة، حيث 85% من مقوّمات الماء في قطاع غزّة دمّرها الاحتلال، وما تبقّى منها يعمل بطاقةٍ جزئية، وأشار إلى أنّ ما بين 10 و12 طفلًا يفقدون أطرافهم بسبب القصف، و94% من سكان قطاع غزّة نزحوا قسريًا من مختلف المناطق إلى منطقةٍ لا تتجاوز مساحتها 12% من مساحة القطاع، أي أقل من 50 كيلومترًا مربعا. علاوةً على أنّ 82% من مستشفيات القطاع خرجت من الخدمة ونفد منها 75% من الأدوية والمستلزمات الطبية.
وطالب الشوّا الأمم المتحدة، بإعلان قطاع غزّة منطقة مجاعة، بما يترتّب على ذلك من استحقاقاتٍ قانونيةٍ وأخلاقيةٍ على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وبما يُشكّل تحرّكًا جدّيًا تجاه دولة الاحتلال، لوقف هذا الحصار القاتل بحقّ أطفالنا ونسائنا، ولوقف جرائم التجويع والتعطيش وفرض المرض والتهجير والقتل الجماعي، مؤكدًا أنّه لا بديل عن عمل الأمم المتحدة وشركائها، وعن الالتزام بمعايير العمل الإنساني بما يحفظ كرامة شعبنا.
تواطؤ بالصمت
من جانبه، قال المدير العام لـ"الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" د. عمار دويك لـ"عروبة 22"، إنّ الصمت الدولي إزاء سياسة التجويع الجماعي يُعدّ تواطؤًا، ولم يَعُدْ إنقاذ الأرواح في غزّة مسألة تضامن، بل ضرورة قانونية وإنسانية مُلحّة. فالتجويع المُمنهَج الذي تُمارسه سلطات الاحتلال بحقّ أكثر من 2 مليون فلسطيني، يعكس سياسةً مُتعمّدةً تُعرف بما يُسمّى "هندسة المجاعة"، أي استخدام الجوع كأداةٍ للقتل الجماعي والسيطرة والضغط السياسي.
وأضاف أنّ استمرار هذه الجرائم يُشكّل تحدّيًا خطيرًا للعدالة الدولية ويضع المجتمع الدولي أمام اختبارٍ أخلاقيّ وقانونيّ صارخ. كما أنّ فشل مجلس الأمن والأمم المتحدة والدول الأطراف في اتفاقيّات جنيف في اتخاذ إجراءاتٍ ملموسةٍ يُشكّل إخلالًا جسيمًا بمسؤولية حماية المدنيين.
وطالب دويك بالضغط على دولة الاحتلال لفتح جميع المعابر الحدوديّة بشكلٍ فوريّ ومن دون شروط، لضمان التدفّق السلس والآمن للمساعدات الإنسانيّة الأساسيّة من الغذاء والماء والوقود والدواء، بإشرافٍ أمميّ ومنظماتٍ محليةٍ ودوليةٍ موثوقة، وضرورة فتح تحقيق دوليّ مستقل وشفّاف في جريمة التجويع الجماعي كوسيلة حرب، والعمل على إحالة المسؤولين عنها إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومطالبة المدّعي العام بالتوسّع في التحقيقات في جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزّة بما يضمن إنفاذ مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
"غزّة الإنسانية" تحوّلت لمصائد موت
كما دعا دويك إلى الوقف الفوري لآليّة ما يُسمّى "غزّة الإنسانية"، التي تحوّلت إلى مصائد موت تهدّد حياة المدنيين الجائعين، واستبدالها بآلياتٍ شفّافةٍ تخضع للرقابة الدولية وتضمن الوصول الآمن والمُنصف للمساعدات.
وإذ طالب المجتمع الدولي والأمم المتحدة بتفعيل مبدأ مسؤولية الحماية (R2P) من دون إبطاء والتحرّك الفوري لإنقاذ الأرواح قبل فوات الأوان، باعتباره التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا، وليس خيارًا سياسيًا، ناشد دويك الحكومة المصرية أن تبادر إلى فتح "معبر رفح" بشكلٍ دائمٍ من دون قيود، وتسهيل مرور المرضى والمساعدات، والعمل الديبلوماسي الفاعل للضغط على سلطات الاحتلال من أجل فكّ الحصار فورًا. كما دعا الدول العربية والإسلامية إلى ضرورة الالتزام بمقرّرات القمّة العربيّة والإسلاميّة والتحرّك الفوري والموحّد لكسر الحصار وإدخال المساعدات إلى غزّة.
(خاص "عروبة 22")