بيد أنّ المدقّق في تحوّلات الثورة الرقمية سيدرك لتوه، أنّ هذا السيل الجارف من المعطيات الضخمة المتداولة، إنّما هو المادة الأولية التي تتغذى عليها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وأنّ ما يتم إنتاجه من مضامين ومحتويات مكتوبة ومرئية ومسموعة، هو في جزء كبير منه نتاج هذه التقنيات وإحدى مخرجاتها الكبرى.
إذ كل تفاعلاتنا في وعبر الشبكات الرقمية، بالإسهام الفعلي المباشر في عملية تصميم المحتويات، أو من خلال ما نتركه من أثر لدى تصفحنا لهذا التطبيق أو زيارتنا لهذه المنصة، إنّما يتم تجميعه ومعالجته وتخزينه، ثم تحليله بخوارزميات في الذكاء الاصطناعي عالية الدقة، سرعان ما تعيد ضخه وتدويره بداخل المنظومة، لتحديد مواصفات المتلقي أو لتأطير توجهاته ورغباته.
لجوء المرء لتقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مزيد من المعطيات يحوّله تلقائيًا إلى مجرد آلة في خدمة التقنيات ذاتها
بالتالي، فإنّ تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إنّما تعمل على تحويل المرء إلى مجرد مصدر للمعلومة، منتج للمضامين بأحجام كبيرة، ترصدها الخوارزميات، تتلقفها وتهضمها ثم تعيد ضخها وتدويرها على نطاق واسع.
نحن هنا بالمحصلة، بإزاء "آلات آدمية" وُضعت وجهًا لوجه مع آلات في الذكاء الاصطناعي لإنتاج المواد الأولية التي تحتاجها اقتصاديات المعطيات الضخمة، وتستوجبها دورتها لإعادة إنتاج لامتناهية للمعطيات إياها في الزمن والمكان.
إنّ لجوء المرء لتقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مزيد من المعطيات، إنّما يحوّله تلقائيًا إلى مجرد آلة في خدمة التقنيات ذاتها، والتي تتحوّل بالتدريج إلى أداة تتحرك كما يتحرك الإنسان، فتستعيض عنه وتحل محله في الوظيفة والصفة. إذ عندما يتصرف الإنسان كآلة، فإنّه يتحوّل تلقائيًا إلى آلة، أي إلى صنيعة للتقنية بعدما كان مصمّمها وصانعها.
يترتب عن ذلك أنّ معظم المعطيات ستكون متشابهة حتمًا ومتماهية مع بعضها البعض، لكن مضمونها القيمي سيكون بالتأكيد ضعيفًا ومحدودًا، إذ بما أنّ الآلة تتغذى على المضامين نفسها التي أنتجتها أو تنتجها، فإنها ستفرز بتحصيل حاصل، مضامين ضعيفة القيمة، أو ذات قيمة متدنية. إنّها التخمة المعلوماتية التي تضيع بجريرتها عناصر الوضوح والشفافية والدقة، فتضيع المعلومة الدقيقة في بحار من المعطيات متباينة الأحجام والأنواع.
هي متتالية منطقية بكل المقاييس، إذ المعطيات التي ينتجها الإنسان في الشبكات أو من خلالها، إنّما يتم اقتناصها من لدن آلات متخصّصة، تعمل على ترتيبها لفائدة محركات البحث، ثم تجميعها وهضمها وتوظيفها لإنتاج معطيات أخرى عن طريق أدوات التعلّم العميق. بيد أنّ هذا السيل الجارف من المعطيات التي توفرها الشبكات وتنفخ فيها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من روحها، إنّما يؤدي إلى تشتيت الانتباه وإضعاف مَلَكة التركيز التي يتم إعمالها مثلًا لدى قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم سينمائي أو الاستماع إلى مقطع موسيقي هادئ.
صحيح أنّ الارتباط بشبكة واسعة من الحواسيب يوفر على ذهن الإنسان عمليات عدة، روتينية ومرهقة، لكن ذلك غالبًا ما يعمل على تفقير قدراته على التجريب، على التعلّم وعلى ترك المسافة الضرورية مع العابر والمتحرك.
يترتب على ذلك قطعًا، تحولٌ عميقٌ في أنماط علاقتنا بالمعرفة وبالعالم. ويترتب عنه أيضًا تحولٌ جذريٌ في تمثلاتنا للذات، للآخر، للفضاء، للمجتمع وللعلاقات الإنسانية. سيتم التركيز على إنتاج المعطى من خلال المعطى، لكن على حساب قدراتنا في التعمّق والتركيز والفكر الجدلي الرصين. وهو ما كنا نعاين نقيضه طيلة فترات الندرة لمرحلة ما قبل الثورة الرقمية، حيث كانت المعلومة رديف المعرفة والإبداع والحوار النقدي الجاد.
كفاءتنا الإدراكية ستُصادَر لفائدة التقنية وسينوب البرنامج المعلوماتي عن ذهننا في اتخاذ القرار
إنّ الانتقال من القلم إلى الحاسوب، من الحبر إلى لوحة المفاتيح، لم يُغيّر الوسيلة فحسب، بل غيّر نمط الكتابة والتحليل والتفكير وإعمال ملكة الخيال والفكر النقدي. إذ بقدر تحوّل الوسيلة، تحوّلت الرسالة من الدماغ إلى الآلة. هي التي باتت تفكر عوضًا عنا، وتوظف خوارزمياتها الاستشرافية لتستشرف مآلاتنا بالنيابة عنا.
فعملية البحث بمحرك البحث غوغل مثلًا، تساعد على تحديد ومعاينة المعلومات الضرورية، لكن ذلك غالبًا ما يؤدي إلى حالة من الكسل تتعطل بموجبها مَلَكات البحث العميق والتفكير الرصين والطرح النقدي المبدع. إنّنا هنا بإزاء عملية مناولة حقيقية، سنتنازل بمقتضاها عن قدراتنا الإدراكية لفائدة التقنية.
بمعنى أنّ كفاءتنا الإدراكية ستُصادَر لفائدة التقنية، وسينوب البرنامج المعلوماتي والهاتف النقال عن ذهننا في اتخاذ القرار، على خلفية من الاعتقاد بأنّ هذه التكنولوجيا إنّما هي تكنولوجيا الذهن بامتياز، فيما هي حمّالة تباشير لما يمكن أن نسميه بـ"تكنولوجيا التضبيع".
(خاص "عروبة 22")