وجهات نظر

منقذ داغر وأطروحته عن مركزية مصر ولا مركزية العراق (2/2)

استعرض مقالي السابق جوهر أطروحة الكاتب العراقي منقذ داغر عن السبب في مركزية مصر ولا مركزية العراق من وجهة نظره، وهذا السبب هو الاختلاف بين الدولتين النهريتين في عدد الأنهار وطبيعتها والظروف الجغرافية المحيطة بها.

منقذ داغر وأطروحته عن مركزية مصر ولا مركزية العراق (2/2)

وتناول المقال السابق بأسلوب نقدي ما انتهى إليه داغر من أنّ الطاعة تدخل في تكوين الچينات الطبيعية للمصريين بينما يُعّد التمرّد مكوّنًا من مكوّنات الشخصية العراقية. وفي هذا المقال يتم تحليل استخلاص آخر من الاستخلاصات التي انتهى إليها داغر حول فكرة التعدّد في الحضارة السومرية مقابل الوحدانية في الحضارة الفرعونية، كما يقدّم تصوّره لتفسير الاختلاف بين شدّة تماسك المجتمع المصري مقابل ضعف هذا التماسك للمجتمع العراقي وذلك من خلال الملاحظتين التاليتين.

الملاحظة الأولى تتعلّق بما ذهب إليه داغر من أنّ الفرعون كرمز للسلطة المركزية وكإله معبود في الحضارة الفرعونية غالبًا ما كان واحدًا، بينما أنّ الملك في الحضارة السومرية كان مندوبًا عن الإله وليس إلهًا بذاته، كما أنه كان هناك تعدّد في الآلهة حتى على مستوى الدين حتى أنّ الذي كان يتخّذ القرارات النهائية هو مجلس أو مجمّع الآلهة الذي لم يكن يخلو من الاختلاف في الرأي والتصارع بين أعضائه.

الذي صنع تماسك المجتمع المصري هو الدرجة العالية من التجانس بين مواطنيه

وهذا الاستخلاص بدوره يحتاج إلى مراجعة لأنّ الحضارة الفرعونية عرفت فكرة تعدد الآلهة بشكل فلسفي رفيع، حيث كان للإله تجلياته المتعدّدة في الاثنين وأربعين مقاطعة العليا والسفلى في مصر، ومثل هذا التعدّد كان ضروريًا للتواؤم مع الظروف الخاصة بكل مقاطعة. أكثر من ذلك كان بكل مقاطعة ثالوث يتكوّن من الأب والأم والابن بما يضمن الاستمرار وعدم الانقطاع، وهذا الثالوث مستوحى من أسطورة إيزيس وأوزوريس وحورس وهي الأسطورة التي توصف بأنها فاتحة الدروس أو بأنها التاريخ الفاتح. وبالتالي فإنّ الكلام عن تعدّد الآلهة في العراق مقابل توحّدها في مصر يتنافى مع فكرة الثالوث وتكريسها في كافة المقاطعات المصرية.

الملاحظة الثانية شديدة الأهمية، هي أنّ الذي صنع تماسك المجتمع المصري هو الدرجة العالية من التجانس بين مواطنيه، فمصر على المستوى العِرقي تعرف الحدّ الأدنى من التنوّع يعكسه على سبيل المثال المواطنون الأمازيغ الذين يمتدون بطول الشمال الأفريقي. وفي مرحلة تاريخية معيّنة عاشت في ربوع مصر عمومًا وفي مدينة الإسكندرية خصوصًا جماعات من الأرمن واليونانيين والإيطاليين تناقصَت بالتدريج، لكن هذه المجموعات كانت وما زالت مندمجة تمامًا في المجتمع المصري وأسهَمَت إسهامًا رائعًا في إثراء مجالات الفن والصحافة والأدب. وعلى المستوى الديني أيضًا هناك حد أدنى من الاختلاف وإن تكن مصر هي أكبر دولة عربية من حيث تعداد المواطنين المسيحيين كما ينقسم المسلمون إلى أغلبية سُنيّة وأقلية شيعية محدودة العدد، أما بالنسبة لليهود فإنّ مَن تبقّى منهم في أعقاب حرب السويس عام ١٩٥٦ لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

لكن عندما ننتقل إلى العراق نجد الوضع شديد الاختلاف لأنه أحد أكثر الدول العربية تنوّعًا على المستويين العرقي والديني، فمن الناحية العرقية يسكن العراق بجوار العرب مواطنون من الأكراد والتركمان والآشوريين والأرمن والأيزيديين والشبك، ومن الناحية الدينية ينقسم المسلمون في العراق إلى أقلية سنيّة وأغلبية شيعية كما توجد أقلية مسيحية، هذا فضلًا عن أتباع الديانات غير السماوية كالصابئة والزرادشت. وبالتالي فعندما يقول منقذ داغر إنه في العراق لا يوجد "يوم وطني، ولا نشيد وطني متّفق عليه ونجد أعيادًا دينية وعِرقية متّفقًا عليها لدى طائفة ومُختَلَفًا عليها لدى أخرى مع خلوّ تام من عيد واحد جامع شامل لكل العراقيين"، فإنه إنما يتحدّث عن ظاهرة لها علاقة بالتنوّع الديني والعِرقي الشديد ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالعامل الجغرافي ولا بتعدّد الأنهار في العراق وكثرة روافدها وشدّة انحدارها.

سوء إدارة التنوَع ظاهرة لازمت التاريخ العراقي وتفاقمت بشدّة بعد الاحتلال الأمريكي

وربما  يكون من الأدّق بدلًا من قول إنّ ظاهرة غياب الاتفاق بين العراقيين حول الرموز والمناسبات المختلفة تعود لشدّة التنوّع بين السكان، القول بأنّ هذه الظاهرة تعود إلى سوء إدارة هذا التنوّع وعدم القدرة على التوافق بين الطوائف والمجموعات القومية المختلفة، وينعكس ذلك في الاستخدام الواسع لمصطلح المكوّنات للدلالة على التنوّع وهو مصطلح يترك انطباعًا بالتنافر بين أبناء الشعب العراقي. وإذا كان سوء إدارة التنوَع ظاهرة لازمت التاريخ العراقي فإنها تفاقمت بشدّة بعد الاحتلال الأمريكي، وبالإضافة إلى المطالبات الكردية بالانفصال تعالت أصوات بعض المحافظات سواء ذات الأكثرية السنيّة أو الشيعية بالحكم الذاتي أو حتى بالوضع الفيدرالي.

في الأخير، فإنّ أطروحة منقذ داغر غنيّة بأفكارها وتفتح الباب واسعًا أمام مناقشة نقدية لتلك الأفكار من زوايا مختلفة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن