ثقافة

"سينما الحرب".. حرائق ورماد!

يشمل نوع الحرب في السينما مجموعة واسعة من الأفلام التي تصوّر الصراع المسلح وآثاره على الأفراد والمجتمعات والأمم. غالبًا ما تستكشف هذه الأفلام موضوعات مثل البطولة والتضحية وأهوال الحرب والصداقة الحميمة بين الجنود والآثار الاجتماعية والسياسية الأوسع نطاقًا للحرب. من المعارك الملحمية إلى القصص الشخصية للجنود على الخطوط الأمامية، كانت أفلام الحرب جزءًا مهمًّا من السينما منذ أيامها الأولى.

من الأمثلة الرئيسية على ذلك، الأفلام الكلاسيكية مثل "نهاية العالم الآن" و"إنقاذ الجندي رايان" و"بلاتون"، والتي تتعمّق في الآثار النفسية والعاطفية للحرب. وتركز أفلام أخرى مثل "السترة المعدنية " و"بلاك هوك داون" على الواقع المرير للقتال والعلاقات الإنسانية التي تنشأ بين الجنود أو الأعداء تحت القصف.

كما تتناول الأفلام الحربية أيضًا في كثير من الأحيان التعقيدات الأخلاقية للحرب، كما هو الحال في فيلم "صائد الغزلان" و"دروب المجد"، اللذين يتطرقان إلى قضايا مثل أخلاقيات العنف وتأثير الحرب على السكان المدنيين. وتستخدم الأفلام الحديثة مثل "1917" و"دنكيرك" تقنيات مبتكرة في التصوير السينمائي ورواية القصص لتغمر الجمهور في فوضى المعارك وعشوائيتها. بشكل عام، يستمر نوع الحرب في السينما في التطور، مما يعكس المواقف المتغيّرة تجاه الحرب وتمثّلاتها، بينما يعمل أيضًا كمنصة لاستكشاف الموضوعات الإنسانية الخالدة في ظروف قاسية وغير اعتيادية.

الحرب تنتج أبطالًا.. ولقطاء

يُعتبر فيلم "حرائق" من إخراج دينيس فيلنوف، والذي صدر عام 2010، من أكثر الأعمال السينمائية التي قدمت مفهوم الحبكة الملتوية بشكل صادم أدخل المشاهد في دوامة عنيفة من المشاعر المتناقضة. ويروي الفيلم، المقتبس عن مسرحية وجدي معوض، قصة توأمين ينطلقان في رحلة للكشف عن ماضي عائلتهما المظلم.

تدور أحداث الفيلم تحت سماء بلد شرق أوسطي مزقته الحرب، ويتعمّق العمل في موضوعات الهوية والعائلة والندوب الدائمة للصراع. بأدائه القوي وتصويره السينمائي المؤثر وسرده للقصص المعقدة، يترك فيلم "حرائق" انطباعًا دائمًا لدى المشاهدين، ويحفز على التفكير في تعقيدات التجربة الإنسانية وإرث التاريخ الدائم.

فيلم "Incendies" هو فيلمٌ معقدٌ ومشحونٌ بالعاطفة ينسج أحداثه ورواياته المتعددة حول تراجيديا تيمات الحرب والأمومة. فكيف تلد النساء قَتَلَتَهُّن؟.

يبدأ الفيلم بقراءة الوصية، في إشارة رمزية إلى الإرث العاطفي السلبي الذي يخلفه جيل الآباء في محاولة أخيرة منهم للحفاظ على دائرة المأساة المتواصلة. حيث يتم إبلاغ التوأم سيمون وجان مروان برغبات والدتهما نوال الأخيرة. يتم تكليفهما بتوصيل رسالتين - إحداهما إلى والدهما الذي كانا يعتقدان أنّه ميت، والأخرى إلى أخٍ لم يعرفا بوجوده قط.

تنطلق جان، عالمة الرياضيات، وسيمون، الملاكم، في رحلة إلى موطن والدتهما، وهو بلدٌ عربيٌ يذكرنا بلبنان، حيث يأملان في كشف حقيقة ماضي عائلتهما. ومع تعمقهما في تاريخ نوال الغامض، يكتشفان اكتشافات صادمة عن حياتها. يكشف الفيلم، من خلال سلسلة من ذكريات الماضي، عن تجارب نوال المؤلمة التي عاشتها في شبابها. فقد تبرأت منها عائلتها لوقوعها في حب أحد اللاجئين، ثم سُجنت لاحقًا لتورطها مع جماعة متشدّدة خلال الحرب الأهلية في البلاد. تكرّس نوال حياتها للعثور على ابنها المفقود، رحلة البحث اليائسة جعلتها تواجه مصاعب لا يمكن تصورها.

تتكرّر معاناة البحث عن القطعة المفقودة من حكاية نوال، حيث يقود تحقيق جان وسيمون إلى سلسلة من المواجهات مع أفراد يحملون أجزاء من لغز ماضي عائلتهم. يتعرّفان على رحلة نوال المروّعة، بما في ذلك سجنها واغتصابها وحملها بعد ذلك بابنها الذي أُجبرت على التخلي عنه. وبينما يكتشف التوأم حقيقة ماضي والدتهما، يواجهان الحقائق المدمرة للحرب والصدمات ودورة العنف المستمرة. تتوّج رحلتهما في نهاية المطاف باكتشاف صادم ومأساوي يعيد تشكيل فهمهما لهويتهما وإرث تاريخ عائلتهما.

جمالية ترصد القبح

غالبًا ما يخلق فيلنوف أجواء بصرية مدهشة تبرز الكثافة العاطفية لأفلامه. وسواء كانت المناظر الطبيعية الصارخة في فيلم "سيكاريو" أو مناظر المدينة البائسة في فيلم "Blade Runner 2049"، فإنّ عوالمه مُصمّمة بدقة لتغمر المشاهدين.

يستخدم الإضاءة والظلال ببراعة لتعزيز المزاج والتوتر. ويمكن رؤية ذلك في المشاهد الغنية بالتباين في فيلم "السجناء" أو فيلم "حرائق" الذي استخدم فيه فيلنوف اللقطات الطويلة وحركات الكاميرا المتعمدة لخلق إحساس بالانغماس والانسيابية في مشاهده. يمكن رؤية هذه التقنية في اللقطات المكثفة من حرائق، كمشهد توقيف الحافلة من طرف المتطرفين، أو اللقطات الواسعة في مشاهد رحلة البحث.

السينما العربية.. مساءلة أخلاقية

لقد ساهمت السياقات التاريخية والإقليمية والهوياتية في التأثير على التعاطي مع تيمة الحرب سينمائيًا، إذ غالبًا ما يتقاطع استكشاف السينما العربية للحرب مع التاريخ الاستعماري وحركات الاستقلال والصراعات الإقليمية. فأفلام مثل "معركة الجزائر" إنتاج سنة 1966 لجيلو بونتيكورفو، رغم أنّه من إخراج إيطالي، إلّا أنّه يُصور المقاومة الجزائرية ضد الحكم الاستعماري الفرنسي.

نجد شعار القومية في العديد من الأفلام الحربية العربية أيضًا، من باب ترسيخ مفهوم الهوية الوطنية والمقاومة ضد الاضطهاد. على سبيل المثال، أنتجت السينما المصرية العديد من الأفلام التي تحتفي بالقومية العربية والمقاومة ضد الاستعمار والإمبريالية.

تعكس السينما العربية المعاصرة الصراعات المستمرة، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وحرب العراق، والحروب الأهلية في سوريا ولبنان. وغالبًا ما تنتقد هذه الأفلام التدخل الأجنبي، وتسائل التكلفة البشرية للحرب، وتسلّط الضوء على الصمود في خضم المحن. ولعلّ فيلم ناجي العلي للراحلين نور الشريف وعاطف الطيب، واحدٌ من أهم الأعمال الدرامية التي ناقشت تيمة الحرب والاحتلال وجرائم الاغتيال السياسي الإسرائيلية. لقد كان هذا الفيلم الذي أنتج سنة 1992 بمثابة تخليد للسيرة الذاتية لناجي العلي، وإصرار على حفظ إرثه الفني والإنساني وتذكير بالنضال المستمر لحنظلة.

تجدر الإشارة إلى أنّ المكتبة السينمائية العربية تحظى باعتراف وإشادة دولية مهمة. وكمثال على ذلك، فيلم "الجنة الآن" للمخرج هاني أبو أسعد، الذي يستكشف حياة الفدائيين الفلسطينيين، وفيلم "ذيب" للمخرج ناجي أبو نوار، الذي تدور أحداثه في الصحراء العربية في حقبة الحرب العالمية الأولى، وغيرها من الأعمال التي فازت بجوائز في مهرجانات عالمية.

بشكل عام، توفر أفلام الحرب العربية منصة لاستكشاف الروايات التاريخية والصراعات السياسية، مما يساهم في فهم أوسع للمشهد الاجتماعي والسياسي المعقد في المنطقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن