يشي تاريخ اليهود أنهم كلّما عاشوا في دولة مستقلة فشلوا في حفظ عقيدتهم نقية، فثمة انهيار ديني أثناء حكم يشوع وداود وسليمان، انحرف بهم إلى عبادة الآلهة الوثنية للشعوب المجاورة. وإنهم كلما عاشوا تحت مظلّة الحكم الأجنبي كانوا أكثر تديّنًا، وهو ما لاحظه إرميا، أحد أنبيائهم الكبار، فاستخلص نتيجة مفادها: أنّ وجود دولة يهودية مستقلة من عمل إبليس وليس من عمل الله. وعندما بعث المسيح نبيًا للرحمة لا القتال، رافضًا عقدة الخيرية العنصرية، فاتحًا شريعة موسى لكلّ المنتمين لإبراهيم بالإيمان والروح وليس بالميلاد والجسد، ولدت المسيحية كدين مستقل له كنيسته وطقوسه، وتوقّف إسهام اليهود في الحضارة الإنسانية كجماعة ثقافية، وإن ظلّ اليهودي حاضرًا كفرد داخل المجتمعات المختلفة.
الحركة الصهيونية أجهضت الهاسكالا وأنشأت إسرائيل كدولة استيطانية استلهامًا للفهم القديم/العنصري
كان إسهام اليهود أكثر وضوحًا في المجتمعات العربية التي لم تعرف "معاداة السامية"، ولا "المسألة اليهودية"؛ كونها مجتمعات سامية لغةً وعرقًا. وفي المقابل خضعت علاقتهم بالمسيحيين في أوروبا لاضطراب دائم دفعهم للعزلة في مجتمع "الجيتو"، حتى جاءت حركة الإصلاح البروتستانتي، التي حفّزتهم لإصلاح تصوّراتهم الأرثوذكسية، فغابت لديهم فكرة المخلص/ المشيح، وتبلور فهم إنساني يمنح الخيرية لجميع المؤمنين، وهو الفهم الذي كان النبي حزقيال عبّر عنه باكرًا، زمن النفي، عندما تصوّر أنّ أرض الميعاد الحقيقية هي الأرض كلها، وأنّ العودة إليها تعني أن تصير البشرية عائلة واحدة على اختلاف الألسنة. ومن ذلك الرحم تغذت حركة التنوير اليهودية "الهاسكالا" التي أسّسها موسى مندلسون، تلميذ الفيلسوف الألماني كانط، والتي سعت إلى التحرّر من طغيان الماضي الانعزالي، وإدماج اليهود في النزعات الإنسانية والليبرالية داخل مجتمعاتهم.
غير أنّ القرن التاسع عشر لم ينتهِ إلا باستعادة حضورهم الجماعي كجنس، والسياسي كدولة من خلال الحركة الصهيونية التي أجهضت الهاسكالا، وأنشأت إسرائيل كدولة استيطانية استلهامًا للفهم القديم/ العنصري، الذي يعتقد في خيرية اليهود، وفي تربّص الأغيار بهم، ما يتطلّب انفصالهم عن المجتمعات غير اليهودية والتجمّع في إطار خاص يحميهم. وحسب الوعد التوراتي، تصير فلسطين هي جغرافية الحلم المسلح. هكذا سلكت الصهيونية عكس الهاسكالا، فبدلًا من تفتيت تناقض اليهود مع الأغيار داخل مجتمعاتهم، عمدت إلى تدعيم الاستثنائية اليهودية بصنع الجيتو الأكبر في التاريخ (إسرائيل)، الدولة التي فرضت منطقها على العلاقة بين العالمين الغربي، والعربي، ففي موازاة عملية إعادة وصل اليهودية بالمسيحية (البروتستانتية)، باعتبارها جذرًا ثانيًا للحضارة الغربية، جرى هدم الجسور القائمة بين الحضارة الغربية، والعربية الإسلامية، لتصبح إسرائيل هي نقطة الارتطام الكبرى بينهما.
كلما نحى اليهود إلى استعادة وجودهم الجمعي تفجّر بركان العدوانية
وحتى عندما ولد تيار "ما بعد الصهيونية" مطلع الثمانينات تأسيسًا على حركة "المؤرخين الجدد" بهدف تقديم حل إنساني للصراع العربي الإسرائيلي، فسرعان ما هُزم أمام الصهيونية الدينية، الأكثر شراسة من نظيرتها العلمانية، والتي تعيد التأكيد مرارًا وتكرارًا على القاعدة القديمة: كلما عاش اليهودي كفرد، كان إضافةً للحضارة، وكلما نحى اليهود إلى استعادة وجودهم الجمعي تفجّر بركان العدوانية، الذي لا تعدو إسرائيل أن تكون تجسيدًا له، إذ تتبدّى كمولود تاريخي لقيط، أنانيّ وساديّ، يتوق إلى مشاهدة مأساته التاريخية مجسّدة في آخرين، تجرى وقائعها من جديد أمام عينيه في دراما إنسانية يزيد من تعقيدها باستمرار عقدة الخوف، التي غالبًا ما تصاحب كلّ كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن، حيث تصبح القوة وثيقته، هويته الرئيسية، الأمر الذي يحيله إلى ملاكم في حلبة يعارك من فوقها الجميع، حتى في الاستراحة وبين الجولات، خوفًا من الهزيمة/ العدم، وافتقادًا للثقة ليس فقط في نفسه وخصمه، بل أيضًا في الحكم، وفي قواعد اللعب التي تجعله محدودًا بزمن، لتستمرّ النكبة العربية في الرضاعة من ثدي الخيرية اليهودية.
(خاص "عروبة 22")