نعلم أنّ مفردة وطن ووطنية قد اقترنت بالنضال ضد الاستعمار، فنشأت الحركات الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى في مصر ضد الاحتلال الإنكليزي وفي سوريا ضد الاحتلال الفرنسي وفي فلسطين ضد الاستيطان الصهيوني وفي الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي وصولًا إلى التحرير وبناء الدولة الوطنية.
وهكذا كانت المفردات المشتقة من وطن تتواتر وتؤشر إلى مراحل من النضال ثم البناء والاستقلال. إلا أنّ المفردة ومشتقاتها غابت أو تكاد عن الأدبيات والاستخدام السياسي أو النضالي. ولكن الباحث والكاتب سمير مرقص حافظ خلال العقود الأخيرة على التذكير بأهمية الانتماء الوطني، وأهمية المواطنة وترشيدها كجواب على كل التناقضات التي تعصف بالمجتمعات العربية.
تجربة سمير مرقص هي تجربة مصرية ترجع إلى التطورات التي شهدتها مصر منذ السبعينات والتحوّلات التي شهدتها الهوية بعد طي صفحة الناصرية في عهد السادات. الأمر الذي أملى على سمير مرقص أن يخصّص جزءًا هامًا من أبحاثه وأفكاره لموضوع المواطنة باعتبارها الرابطة التي تجمع المصريين مسلمين وأقباطًا، إزاء التوترات التي أحدثها صعود التنظيمات المتطرّفة التي أرادت أن تعيد النظر في هوية مصر وتاريخها منذ بداية نهضتها في مطلع القرن التاسع عشر مع محمد علي باشا، وصولًا إلى ثورة 1919 التي كانت بحق تأسيسًا للمواطنة المصرية.
في إعادة نشر لمجمل أعماله في 12 جزء (إصدار 2024)، تدور حول موضوع المواطنة وما تفرّع عنه من مسائل الدولة والبيروقراطية، والحراك الشبابي، والطبقي، والتنمية.
في الجزء الذي يحمل عنوان: المواطنة والهوية، جدل النضال والابداع في مصر، يخصّصه للمقالات والدراسات التي نشرها حول هذا الموضوع ويبدأ بعد المقدمة بالفصل الأول الذي يحمل عنوان: نحو تعريف جديد للمواطنة: "حركة الانسان (المواطن) اليومية، مشاركًا ومناضلًا من أجل حقوقه، بأبعادها المدنية والاجتماعية والثقافية على قاعدة المساواة مع الآخرين، من دون تمييز لأي سبب، واندماج هذا المواطن في العملية الإنتاجية، بما يتيح له اقتسام الموارد في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين".
وبهذا المعنى فإنّ المواطنة ليست مجرد قيمة مثالية وأخلاقية. وليست شعارًا يتبناه الفرد، وإنما هو ممارسة بأبعاد متعددة تقوم على أساس المساواة مع المواطنين الآخرين.
يقول سمير مرقص بأنّ العودة إلى مفهوم المواطنة أصبح مُلحًا ومتداولًا منذ أحداث التوتر الديني التي بدأت في نهاية سبعينات القرن الماضي.
إلا أنّ دراسة سمير مرقص لا تتوقف عند هذا التاريخ بل ترجع إلى التجربة المصرية منذ بداية النهضة وحتى وقائع 25 يناير 2011 و 30 يونيو 2013، إشارة إلى حراك الشعب المصري بين هذين التاريخين. وإحدى الخلاصات الأولية، التي لا تنطبق على مصر فقط وإنما تنطبق على مجمل بلدان العالم العربي، هي: أنّ انسحاب الدولة من مسؤولياتها الأساسية أعاد المواطن إلى دوائر الانتماء الأضيق: الدينية والقبلية والعائلية والعشائرية بحثًا عن الاحتياجات الأساسية المادية والمعنوية.
يقرن سمير مرقص المواطنة بالهوية التي يتناولها تاريخيًا وفلسفيًا وبالعودة إلى كبار المنظّرين وصولًا إلى آخر النظريات في مجتمعات ما بعد الحداثة ليخلص إلى أنّ الهوية لم تعد موروثًا مغلقًا ساكنًا معزولًا عن التاريخ وما يطرأ فيه من تحوّلات وإنما حالة ديناميكية منفتحة على الواقع. تكتسب ملامحها وشرعيتها من ذاتها الحرّة.
لا يمكن تلخيص كتاب هو تراكم من المقالات والدراسات التي كُتبت على مدى سنوات طويلة، ولكن من المفيد الإشارة إلى الوثائق التي نشرها والتي صدرت خلال السنوات السابقة لثورة 25 يناير 2011 وبعدها، مما يشير إلى أنّ مسألة المواطنة أصبحت موضوعًا مطروحًا للنقاش من جانب الهيئات المدنية والدينية على السواء. ومن ذلك إشارته إلى مؤتمر الأزهر عام 2017، تحت عنوان: الحرية والمواطنة: التنوع والتكامل.
لقد اجتهد سمير مرقص خلال حياته الفكرية والعملية على التعريف والتأصيل لمفهوم المواطنة لشعوره العميق بأهمية هذه الرابطة في تقدّم المجتمع وحلّ مشكلاته الهويّاتية. ومع ذلك، فإنّ الأمر كما يقول، يحتاج منّا إلى التفكير في الانتقال بالمواطنة، من مساحة التأصيل إلى مساحة التفعيل.
(خاص "عروبة 22")