عادةً ما تتجنّد مختلف وسائل الإعلام العربية وتحشد كلّ طاقاتها للتهليل والتطبيل والتكبير انتشاءً بنجاح أحد المهاجرين العرب وتفوّقه في مجال ما حالما يتناهى إلى مسامعها على حين غرّة فوز أحد الأسماء العربية بجائزة دولية أو تتويج ما، رغم أنّ ذلك المحتفى به قد يكون من أبناء الجيل الثاني أو الجيل الثالث للمهاجرين العرب الذين لم تعد تربطهم ببلدانهم الأصلية ارتباطات حقيقية تُذكر. ومن ثمة فإنّ تتويجهم المتحقّق حصل بفضل تضحياتهم الفردية والعائلية، والظروف المساعدة على البحث العلمي والعمل الجادّ التي وفّرتها بلدان إقامتهم الغربية، واكتسابهم صفة المواطنة الكاملة فيها، وما يعنيه كلّ ذلك من ترسّخ قيم الشفافية والنزاهة والكفاءة وتكافؤ الفرص والقانون قيمًا سلوكية اجتماعية.
تُعدّ الاعتمادات العربية المخصّصة للبحث العلمي والتطوير الأضعف على المستوى الدولي
لعلّ ما يفسّر ذلك الطابع الاحتفالي التهليلي للسلط القائمة بنجاحات الكفاءات العربية المهاجرة هو بحثها عن الترويج لنجاح سياساتها التربوية والعلمية والثقافية في "تكوين" المتفوّقين دوليًا. لكن ما يلاحظ في هذا الصدد أنّ ذلك الاحتفاء غالبًا ما يكون مناسباتيًا عرضيًا ينتهي بانتهاء مراسم ذلك الاحتفاء الذي عادةً ما يتزامن مع اهتمام من أعلى السلطة السياسية ومنظومة "إعادة الإنتاج" المرتبطة بها رمزيًا وماديًا.
بيد أنّ ذلك التناول الدعائي لا يمكن أن يحجب عديد المؤشّرات السلبية ومنها حقيقة وضعية البحث العلمي ومنزلة الكفاءات العربية بأوطانها. فكما هو معلوم تُعدّ الاعتمادات العربية المخصّصة للبحث العلمي والتطوير الأضعف على المستوى الدولي. إذ لم تتجاوز نسبة الإنفاق العربي 0٫7٪ من الناتج المحلّي الإجمالي للدول العربية سنة 2021 حسب إحصائيات البنك الدولي. ولا يخصّص للبحث والتطوير إلاّ النزر القليل من تلك النسبة الضعيفة.
من الأنسب أن تتعامل الأنظمة مع نجاحات الكفاءات العربية المهاجرة تعاملًا بنّاءً يسمح باستلهام نجاحاتهم
تُعدّ هذه الوضعية علامة بيّنة بمختلف البلدان العربية. ويكفي اعتماد الحالة التونسية مثالًا. إذ يقدّر المرصد الوطني للهجرة عدد الكفاءات التونسية المهاجرة سنويًا في مجالات التعليم والطب والهندسة بأكثر من خمسة وثلاثين ألف تونسي، منهم 6500 مهندس سنويًا حسب تقديرات وكالة التعاون الفنّي. وقد حذّر المرصد الوطني للهجرة من تفاقم نزيف هجرة الأدمغة في مجالات حسّاسة مثل الطب والهندسة الرقمية. ذلك أنّ الهجرة أصبحت حلمًا مشتركًا بين الشباب والكفاءات ليس فقط بسبب ضعف مستوى التأجير، وتضاؤل فرص العمل الملائم، وتدهور المقدرة الشرائية، وإنّما كذلك لغياب ظروف العمل المثمر، وتقديم الولاءات على الكفاءات في مختلف المجالات. الأمر الذي يجعل التطلّع إلى تغيير الأوضاع إيجابيًا وبناء مستقبل أفضل حُلمًا بعيد المنال.
كان من الأنسب أن تتعامل الأنظمة القائمة مع نجاحات الكفاءات العربية المهاجرة تعاملًا معرفيًا ونقديا بنّاءً يسمح باستلهام نجاحاتهم في الترسيخ الفعلي لمفهوم القدوة الاجتماعية الحسنة وبناء المواطن الصالح، وإقامة شراكات علمية حقيقية وتعاون فنّي ناجح، والاستثمار في الذكاء البشري و"الصناعات الثقافية". وهو ما يساعد على إعادة النظر في مختلف السياسات التربوية والثقافية المنتهجة طيلة عقود وتغييرها، الأمر الذي ييسّر تجاوز حالة الركود والانسداد التي تعيشها مختلف الهياكل والمؤسّسات بالمنطقة العربية.
ما زالت البلدان العربية في "حفلها التنكّري" الطويل غير عابئة بعامل الزمن وتحدّيات الحاضر ورهانات المستقبل
لا جدال في أنّ انسداد الآفاق بالبلدان العربية شكّل دافعًا قادحًا لهجرة عائلات تلك الكفاءات وبحثها عن بيئات اجتماعية تساعدها على تحقيق طموحات أبنائها. وهو ما تحقّق لهم فعليا بالبلدان الغربية بعد عقدين أو جيل، بينما ما زالت البلدان العربية في "حفلها التنكّري" الطويل غير عابئة بعامل الزمن وتحدّيات الحاضر ورهانات المستقبل. ولعلّ طريقة توديع عالم المستقبليات المغربي المفكّر المهدي المنجرة خلال جنازته سنة 2014 تختزل حقيقة مكانة الكفاءات العلمية والفكرية بالمنطقة مقارنةً بما يُعرف بنجوم الرياضة والفنّ والسياسة.
(خاص "عروبة 22")