أما الجماعة فتمتد بجذورها في الربع الثانى للقرن العشرين، وأما الجيش فتمتد جذوره في تربة الدولة الوطنية الحديثة، ولكن برز دوره الساحق في الربع الثالث من القرن الماضي. صاغت الجماعة لنفسها كهفًا فى الداخل تتحوصل داخله، وامتدادًا فى الخارج تنتشر من خلاله، عبر مشروع إسلامى أممي. أما الجيش فحافظ على وطنيته بحكم تمدده في قلب كل بيت مصري به ضابط أو جندي.
مارست مصر خيارات اقتصادية قادت إلى تفكيك الطبقة الوسطى وخيارات سياسية أفضت إلى نظام مغلق
ظلّ مشروع الجماعة مجمّدًا فى ثلاجة الزمن، منتظرًا لحظة التمكين. أما مشروع الجيش فمورس عمليًا فى النصف الثاني من القرن العشرين والعقدين الأوليين من الحادي والعشرين، موزعًا على أربعة عصور، اشتركت جميعها فى افتقاد الحرية، وإن اختلفت كثيرًا في نوعية الاستبداد وقامة المستبد، بين بطل تاريخي كجمال عبد الناصر، اتسم استبداده بالعدل الشديد، والتحديث الفعال، والمبادرة الإقليمية، فأنتج نموذجًا معقولًا للحياة، قام على العدل الاجتماعي، والتفتح الثقافي، رغم الانغلاق السياسي، فكان صفقة شاملة جيدة بمعيار زمانها، تقبّلها عموم المصريين بامتنان. وبين رجل سياسي كالسادات، شهد عصره توترًا إقليميًا بين ثنائية الحرب والسلام، ومراوحة سياسية بين الأحادية الصلبة وبين التعددية المقيّدة. لكنه جسّد تراجعًا هائلًا على صعيد العدل الاجتماعي بفعل سياسة الانفتاح غير المدروس، الذي أنتج سوقًا مشوّهًا واقتصادًا طفيليًا. وكذلك على صعيد التفتح الثقافي نتيجة استخدامه التيارات الإسلامية في قمع التيارات الحديثة المناوئة لحكمه خصوصًا من الناصريين واليساريين، ما أودى بحياته في النهاية. وبين رجل أشبه بمدير إداري، كمبارك، كان عصره استمرارًا سياسيًا لعصر السادات على صعيد التعددية المقيّدة، مع هامش من التحرّر الإعلامي بحكم طبيعة الزمن الجديد وضروراته المستجدة، ولكن مع تراجع فاحش على صعيد العدالة الاجتماعية، أدى لإفقار الطبقة الوسطى التقليدية العريضة، وخلق هامشًا نحيفًا من طبقة وسطى حديثة، تشكّلت من المهن التكنولوجية المستحدثة، ودخلت بإرادتها في خدمة الطبقة الرأسمالية الجديدة. أما ثقافيًا فكان ثمة ميل عميق نحو المحافظة والرجعية على صعيد الملبس ونمط الحياة، كسر نمط الحياة المصري. أما الأخطر فتمثّل في حالة الرخاوة الذي اتسم بها نظام مبارك في التعاطي مع العالم الخارجي، والفقدان المتنامي لدور مصر الإقليمي، خصوصًا في الصراع العربي - الإسرائيلي، والذي اقتصر طيلة السنوات العشر الأخيرة من حكمه على مجرد الوساطة بين إسرائيل والفلسطينيين، خصوصًا "حماس".
احتجاجًا على أوضاع كتلك، هبت عاصفة يناير بأحلامها الكبرى في العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، قبل أن تختطفها جماعة "الإخوان المسلمين"، ولكن سرعان ما فقدت الجماعة حكمها بعد عام واحد نتيجة قلة خبرتها وعجزها البادي عن فهم قضية السلطة والشرعية، وكذلك فقرها الثقافي الذي جعلها تطرح على المصريين أسئلة زائفة حول طبيعة أزمتهم باعتبارها أزمة هوية دينية وليست أزمة تحرّر وتقدّم، وأيضًا عن طموحاتهم باعتبارها قيادة مشروع الإسلام السياسي، المستحيل بالمعايير التاريخية والحضارية، وليس استعادة ريادتها لمشروع التحرر القومي العربي. الأمر الذي دفع المصريين للخروج عليها في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013. هنا تقدّم الجيش، باسم الجماهير الغفيرة، لاستلام السلطة منها.
أزمة مصر اليوم في كونها محشورة بين جماعة دينية أفسدت ثورة يناير وبين جيش وطني أفسد لحظة 30 يونيو
لم تبارك الجماهير حركة الجيش رغبةً منها في إقامة ديكتاتورية عسكرية، أو استبداد صريح، لكن ذلك هو ما حدث بكل أسف، ودفع مصر إلى موقف أكثر ضعفًا، حيث مارست في العشرية الماضية خيارات اقتصادية قادت إلى تفكيك الطبقة الوسطى، وهدم نظام الرعاية الاجتماعية الذي شيّدته ثورة 23 يوليو/تموز. وخيارات سياسية أفضت إلى نظام مغلق، تكاد تتمتع فيه السلطة التنفيذية بحرية تصرف مطلقة، تخلو من كل صور الرقابة سواء البرلمانية أو الإعلامية. وكذلك في مسارات ثقافية حافظت على الرجعية الدينية. وأخيرًا في مسارات إقليمية زادت من تهميشها الاستراتيجي.
ومن ثم يمكن تلخيص أزمة مصر اليوم في كونها محشورة بين جماعة دينية متخلّفة أفسدت ثورة يناير، وبين جيش وطني حديث أفسد لحظة 30 يونيو/حزيران، إذ فوّضته الجماهير لاستلام السلطة من الجماعة باسمها، لكنه نهض بالمهمة على طريقته الخاصة. ومن ثم ظلّت مصر بعيدة عن الحكم المدني، وظلت أشواق التغير لدى النخبة المصرية دون إشباع، بعد أن ذهبت تضحياتها التي أنتجت لحظة يناير المشرقة، ولحظة يونيو الهادرة، هباءً منثورا، لتظلّ مصر بعد ثلاثة عشر عامًا من يناير، وأحد عشر عامًا من يونيو، تبحث عن نفسها، عن الديمقراطية والحكم المدني، أي حكم العقل.
(خاص "عروبة 22")