لقد أفرز التحدي الديموغرافي بدوره تحديات أخرى مرتبطة بالتحولات المجتمعية، فقد عَصَفَ الانتقال الديموغرافي السريع وتبني معظم الأسر العربية لأنماط وطرائق جديدة للاستهلاك والإنتاج، بالهيكلة الاجتماعية التقليدية القائمة على نظام القبيلة والأسرة الممتدة، المؤطَّرَة بقيم التّضامن والتكافل، التي حلت محلها مجموعة من القيم الكونية تتوافق مع نظام الأسرة النووية المهيمن على الهندسة المجتمعية في معظم الدول العربية، وهو ما فرض ضرورة البحث عن بدائل لتعويض تفكك منظومة التضامن العائلي، التي كانت توفر الرعاية الاجتماعية للأشخاص المسنين والأطفال الصغار وذوي الاحتياجات الخاصة بشكل تطوعي.
متوسط نسب التغطية الاجتماعية في المنطقة العربية لا يتجاوز في الوقت الراهن 25% من السكان
في واقع الأمر، على الرغم من الجهود المبذولة في هذا الصدد، لم تواكب السياسات الحكومية في المنطقة العربية وتيرة الانتقال الديموغرافي والتحولات المجتمعية، فالانتقال الذي تطلب أزيد من قرن من الزمن في الغرب، لم ولن يستغرق في المنطقة العربية على أقصى تقدير سوى أربعة عقود؛ لقد سجلنا خلال هذه الفترة انشغالًا لدى الحكومات العربية بتدبير تحديات الانتقال السياسي والاقتصادي، قابله إغفالٌ للتطورات الديموغرافية والمجتمعية، فرض على الأسر العربية في صيغتها النووية تحمّل أعباء الرعاية، في ظل غياب شبه تام للفاعل الحكومي، وهو الأمر الذي فاقم مخاطر الإرهاق والفقر والهشاشة والاستنزاف لدى شرائح واسعة من المجتمع، زاد من حدتها تدهور القدرة الشرائية وتغيّر أنماط العمل وعدم شمول فئة كبيرة من المسنين بأنظمة التغطية الاجتماعية.
أنظمة الحماية الاجتماعية طوق نجاة بحاجة إلى الإصلاح
حري بنا في هذا السياق، الإشارة إلى أنّ متوسط نسب التغطية الاجتماعية في المنطقة العربية لا يتجاوز في الوقت الراهن 25% من السكان، الأمر الذي يُفَسَّرُ بهيمنة المهن الحرة والقطاع غير الُمهيكل (غير النظامي) على المشهد الاقتصادي في معظم الدول العربية، فعلى سبيل المثال، 70% من النشاط الاقتصادي في المغرب غير مُهيكل حسب معطيات مؤسّسة "المندوبية السامية للتخطيط"، كما يفسَّر أيضًا بإحجام نسبة مهمة من المقاولات عن التصريح بالعاملين لديها لأنظمة الضمان الاجتماعي، رغبةً في تقليص نفقاتها الاجتماعية.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة، إلى أنّ سوء تدبير الاحتياطات المالية لأنظمة الضمان الاجتماعي، واختلال قاعدة المساهمين بعد ارتفاع عدد المحالين على التقاعد مقابل عدد السكان النشيطين المساهمين، أسهما بشكل كبير في تعاظم مخاطر انهيار هذا الأنظمة، حيث يرتقب أن تفلس بالمغرب بعض مؤسّسات هذه المنظومة ابتداءً من سنة 2028، وهو الباعث الذي فرض على الحكومة المغربية اتخاذ مجموعة من الإجراءات العاجلة، في مقدّمتها رفع نسب الاقتطاعات المالية للمساهمين في هذه الأنظمة، ورفع سِن التقاعد، ومراجعة طرائق استثمار وتدبير الاحتياطات المالية، إلى جانب توسيع قاعدة المساهمين عبر إلزام كل السكان النشيطين مهما كانت طبيعة عملهم بالانخراط في نظام الضمان الاجتماعي، وهي إجراءات من شأنها تمديد العمل بهذه المنظومة لعدة سنوات مُقبلة، غير أنّها لن تحول في اعتقادنا دون انهيارها في ظل غياب إصلاحات جوهرية.
التعامل مع منظومات الدعم المباشر فاقم مخاطر عجز الموازنة وضاعف الشكوك حول استدامة الموارد المالية
بالموازاة مع هذه الإصلاحات، ارتأت دول عربية كمصر والمغرب، تطوير منظومات للدعم المباشر، بُغية استهداف أمثل للفئات الهشة والفقيرة، حيث عملت مصر في هذا الصدد على استحداث راتب تقاعدي للمسنين منعدمي الدخل وأطلقت برامج ترمي إلى شمول أوسع لكبار السن بنظام الحماية الاجتماعية، ووفق ذات الرؤية عملت المملكة المغربية على توحيد أنظمة الدعم، من خلال استهداف مباشر للأسر الفقيرة التي ترعى أطفالًا صغارًا أو ذوي احتياجات خاصة أو مسنين، عبر رصد دعم مالي شهري يتراوح بين 50 و100 دولار، وكذلك عبر تسقيف الحد الأدنى لرواتب التقاعد في حدود 1000 دولار، مع العمل على التكفل بنفقات الاشتراك في التأمين الصحي الاجباري، وهو الأمر الذي أسهم في تعزيز حماية الفئات الهشة والمسنين، إلّا أنّه فاقم مخاطر عجز الموازنة وضاعف الشكوك حول استدامة الموارد المالية الضرورية لتنزيل بقية أشطر الإصلاح، وهو ما سيشكل تحديًّا حقيقيًا للحكومة المغربية خلال السنوات المقبلة.
(خاص "عروبة 22")