والحقيقة أنّ أقصى اليمين يتبنى خطابًا متشددًا في مواجهة الهجرة والمهاجرين بالقول إنه ينوي ترحيل كل المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا، وتشديد الرقابة على الحدود لمنع تدفق مزيد منهم، كما ينوي عدم الاكتفاء بحبس من يرتكب نوعية من الجرائم في فرنسا إنما سيتم ترحيله خارج البلاد، وهي كلها أمور يرى حزب أقصى اليمين (التجمع الوطني) أنها ستحل جانبًا من مشاكل الأجانب المقيمين في فرنسا، ولكنها لن تحل جوهر مشكلة من يوصفون بالأجانب لأنها باتت تتعلق بالمواطنة وعدم التمييز نظرًا لكون الكثير من هؤلاء أصبحوا يحملون الجنسية الفرنسية.
الجانب الأكبر من المهاجرين أصبح الآن يحمل الجنسية الفرنسية وله حق التصويت
إنّ إغلاق الحدود في وجه الأجانب أو اللاجئين قرار سيادي من حق أي دولة أن تتخذه أي كان الرأي فيه، ولكن قرار التمييز بحق مواطنين يعيشون في البلد لأنّ أصولهم مهاجرة أو لون بشرتهم أسمر، يُعتبر عملًا ضد القانون وضد أيضًا مواثيق حقوق الإنسان والأعراف الدولية التي وقّعت عليها (وربما وضعتها) كثير من الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا.
صحيح أنّ نسبة يُعتد بها من هؤلاء المهاجرين ينطبق عليهم اسم مقيمين أجانب ولا يحملون الجنسية الفرنسية، إلا أنّ الجانب الأكبر منهم أصبح الآن يحمل الجنسية الفرنسية وله حق التصويت وهم في غالبيتهم الساحقة لا يصوّتون لأقصى اليمين الذي بات واضحًا أنه يستهدفهم.
ومن هنا سنجد أنّ أمام أي حالات شغب أو أحداث عنف تشهدها فرنسا فإنّ أصابع الاتهام تتجه إلى الأجانب سواء كانوا فرنسيين أو غير فرنسيين، ويُعتبرون جميعًا متهمين وفق نظرية "السيئة تعم والحسنة تخص".
ولذا علينا ألا نندهش أنّ مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أصدر بيانًا العام الماضي تعليقًا على تعامل الشرطة مع أحداث العنف الواسعة التي شهدتها فرنسا وخاصة في الضواحي التي يعيش فيها كثير من الفرنسيين من أصول عربية، وطالب فيه الحكومة "أن تعالج بجدية المشكلات العميقة المتعلقة بالعنصرية والتمييز العنصري في إنفاذ القانون" وهو البيان الذي رفضت ما جاء فيه وزارة الخارجية الفرنسية وفكّرتنا بكثير من وزارات الخارجية في العالم العربي، ولكن دون أن تقول إنها ترفض "التدخل في شؤونها الداخلية" وأنّ ارتكاب الانتهاكات حق من حقوق السيادة كما تشير ولو ضمنًا بيانات كثير من الحكومات العربية.
معضلة خطاب اليمين المتطرف أنه يعتبر صراحةً أو ضمنًا "الفرنسيين المهاجرين" غير قابلين للاندماج بسبب خلفيتهم الثقافية والدينية وأنّ العنف متأصل فيهم، ولا يقبل مناقشة أي جوانب سلبية تتعلق بخطابه السياسي أو بممارسات كثير من المؤسسات الفرنسية التمييزية.
أما الفرنسيون من أصول مهاجرة فيرون أنّ المؤسسات الفرنسية في مجملها تميّز بينهم ويعتبرون أنّ الشرطة تستهدفهم سواء كانوا مواطنين فرنسيين أو مقيمين شرعيين مقارنةً بموقفها من الفرنسيين البيض، وأنّ المنظومة الحاكمة دفعتهم للعيش في الضواحي مهمّشين يعانون من التمييز في الوظائف والبطالة بسبب لون بشرتهم أو أسمائهم حتى لو حملوا الجنسية الفرنسية ولا يعتبرهم كثير من الفرنسيين مواطنين مثلهم.
مشروع اليمين المتطرف يعظّم من سلبيات النموذج العلماني ويتجاهل إيجابياته الكثيرة في دولة المواطنة والديمقراطية
إنّ فرنسا تكاد تكون البلد الوحيد في العالم التي تعتبر العلمانية مهددة إذا قرر طلاب في مدرسة الصلاة داخل مدرستهم، أو أعلنت سلسلة مطاعم أنها تقدّم لحمًا حلالًا، أو ارتدت شابات الحجاب، حتى وصل الأمر أن أصبحت فرنسا هي البلد الوحيدة في أوروبا التي رفضت توقف مباريات الكرة دقيقة لإفطار بعض اللاعبين المسلمين، ولذا لم يكن غريبًا أن تعلن زعيمة حزب التجمع الوطني أنها تنوي إلغاء ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، ولن تكتفي بمنعه كما هو مطبّق حاليًا في المؤسسات الحكومية والعامة، لتصبح أول بلد في العالم تتخذ مثل هذا القرار.
مشروع اليمين المتطرف يعظّم من سلبيات النموذج العلماني الفرنسي ويتجاهل إيجابياته الكثيرة في دولة المواطنة والديمقراطية لصالح مشروع لا يقبل التنوّع ولا يحترم الخصوصيات الثقافية ويسعى لإقصاء قطاع واسع من الفرنسيين لأنّ أصولهم عربية أو غير أوروبية ويضع مزيدًا من العراقيل أمام فرص صعودهم في السلّم الاجتماعي والوظيفي.
ستتفاقم مشاكل فرنسا إذا شكّل حزب أقصى اليمين يومًا ما الحكومة الفرنسية لأنه لن يواجه فقط قضية مهاجرين أجانب هي محل نقاش وجدل في كثير من دول العالم، إنما سيواجه مشكلة مواطنة ومواطنين وهذا في حد ذاته يمس جوهر النموذج الفرنسي في المساواة وعدم التمييز بين المواطنين.
(خاص "عروبة 22")