وجهات نظر

أوروبا وزمن المواطنية الجديدة

"... أنا آسف، لكنكم أرسلتم إشارة واضحة مفادها أنّ حكومة المملكة المتحدة يجب أن تتغيّر، وحكمكم هو الحكم الوحيد المهم، لقد سمعتُ غضبكم وخيبة أملكم". بهذه الكلمات ودّع، الأسبوع الماضي، رئيس الوزراء البريطاني "ريشي سوناك" المواطنين معلنًا استقالته رسميًا قبل تقديمها إلى ملك إنجلترا كما تقضي الأعراف الديمقراطية هناك، نتيجة الهزيمة التاريخية لحزب المحافظين الحاكم منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة.

أوروبا وزمن المواطنية الجديدة

رد الفعل نفسه تكرر أعقاب الجولتين الأولى والثانية للانتخابات التشريعية الفرنسية - في يومي 30 يونيو/حزيران و7 يوليو/تموز الماضيين - على لسان أكثر من سياسي فرنسي سواء احتفاءً بالنصر والحرص على القول بأنّ النصر هو "استعادة السلطة للشعب/المواطنين"، أو اعترافًا بالهزيمة ووصفها بـ"الثقيلة التي لا تقبل الجدل لأنها تعبّر عن إرادة المواطنين"؛ ما الذي يربط بين ما جرى في فرنسا وبريطانيا وما جرى في إسبانيا وإيطاليا والسويد وألمانيا قبل سنوات، وسوف يجري في السنوات المقبلة؟.

تشكّلت حركية مجتمعية أوروبية جديدة ذات طبيعة "كتلوية" تضم قوى اجتماعية متنوعة

بغض النظر عن الاختلافات النوعية بين فرنسا وانجلترا وألمانيا فيما يتعلق بطبيعة النظام السياسي، والسياق الاجتماعي، إلا أنّ ما جرى في هذه الدول، وما سيجري لاحقًا في دول أخرى، يعكس حركية مواطنية "طبقية، وشبابية، وجهوية، وفئوية"؛ انطلقت منذ مطلع العقد الثاني تعبّر عن "سخط شعبي/مواطني تاريخي"؛ بفعل "الملل من كل شيء"، حسب أحد الباحثين.. ملل ناتج عن الإخفاقات المتعاقبة لنخب ومؤسسات وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أوصلت أوروبا إلى "لا مساواة تاريخية غير مسبوقة بين الأقلية الثروية والأغلبية المواطنية". ما أدى إلى ما بات شائعًا في العملية السياسية الانتخابية بـ"التصويت الهائج"؛ تصويت أكثر من عقابي إذ يسعى إلى تأسيس جديد؛ يذكّرنا بمقولة ماركيوز (1898 ـــ 1979) أثناء ثورة الشباب في الستينيات: "إنّ ما يجري في مجتمعاتنا من ديناميات يلزمنا بإعادة النظر"، إلا أنّ نخبة الليبرالية الجديدة ظلت تناور، خاصة في العقد الأخير، ولم تستطع إدراك عمق التحولات النوعية التي طالت بنية المجتمع والدينامية المجتمعية المواطنية المختلفة جذريًا عن التي عرفتها أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.

فلقد تشكلت حركية مجتمعية أوروبية جديدة ذات طبيعة "كتلوية" فيما عُرف بـ"الكتل الجديدة"؛ كتل جماهيرية/مواطنية تضم قوى اجتماعية متنوعة "طبقية ونوعية وجيلية وفئوية وجهوية"، تتضامن فيما بينها خارج المؤسسية السياسية والمدنية القائمة مثل: الأحزاب، والنقابات، والجمعيات. إذ تنتظم هذه الكتل في حركات احتجاجية ومطالبية من جهة، أو أحزاب جديدة من جهة أخرى، من أجل أن تمارس سلوكًا سياسيًا ومدنيًا "مضادًا"؛ أي تناضل على المستوى القاعدي الميداني "ضد" النخبة السياسية الفاشلة.

تمحورت سياسات "ضد"؛ إذا جاز التعبير، حول رفض الانحرافة التاريخية عن سياسات الرفاه التاريخية التي التزمت بها قوى الوسط بتجليها اليميني واليساري منذ الحرب العالمية الثانية من خلال التناوب التاريخي في الحكم بين اليسار واليمين عمومًا (يمين الوسط ويسار الوسط)، وذلك لصالح سياسات الليبرالية الجديدة. تلك السياسات التي أوصلت أوروبا إلى لا مساواة غير مسبوقة، وإخلال تاريخي لمنظومة الرفاه بتجلياته الأوروبية المتنوعة - الكوربراتية كما في فرنسا وألمانيا، والديمقراطية الاجتماعية الاسكندنافية، والليبرالية البريطانية - ما دفع الكتل المواطنية بتقاطعاتها الطبقية والفئوية والجهوية والعمرية أن تتبنى "سياسات الشارع"، التي تبنّت تصورًا للتغيير من أجل "انطلاقة التناوب الجديد" الذي يكسر حكم الوسط التاريخي ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ويقوم هذا التصور على إعطاء الأولوية للمسألة الاقتصادية - الاجتماعية وكل ما يمس حياة المواطن المعيشية. خاصة بعدما أضيرت بشكل مباشر حقوق ومصالح الطبقتين الوسطى والفقيرة بشرائحها التقليدية والمستجدة من خلال سياسات مجحفة مسّت المتقاعدين والشباب وسكان الحضر والريف والقاطنين على التخوم بينهما. ما أثّر على تدهور السياسات التنموية، وأضعف الاستثمارات اللازمة التي تكفل الاستمرار في تقديم خدمات صحية وتعليمية وتأمينية متطورة، وضاعف غلاء المعيشة، وفاقم الأزمات المالية،...، إلخ.

الدينامية المواطنية الجديدة أشمل من الحركية السياسية الحزبية التقليدية المتعارف عليها

وبالأخير، أدى ما سبق إلى بطالة وركود وتضخم. وفي هذا المقام، تجدر الإشارة إلى أنّ نخبة العولمة لم تتأثّر لا من قريب أو من بعيد بأي مما سبق. فالثابت أنّ السياسات الحكومية جاءت في صالح تلك النخبة وهو ما أُخذ على ماكرون الذي جاء تحت مظلة حركة الجمهورية إلى الأمام أملًا في إصلاح سياسي/اقتصادي يستجيب للحركية المواطنية الجديدة - آنذاك - حسب ما كتب في كتابه: ثورة؛ على "إقامة العدل للأكثر ضعفًا". إلا أنه انتهى به المطاف يلبي ما تقتضيه مصالح نخبة العولمة. ما دفع الحركية المواطنية إلى أن ترفع شعار "النيوليبرالي الأخير"؛ في إشارة إلى ضرورة - ليس فقط - إزاحته، بل والتحرر من ثنائية الحكم التاريخية وتناوبها التاريخي (في الحالة الفرنسية ثنائية الجمهورية - الاشتراكية).

وأظن أنّ نتائج الانتخابات الفرنسية والحضور الشعبي/المواطني المكثف الذي قارب الـ70% (نسبة تُعد الأعلى منذ العام 1981) عكسا حركية مواطنية يجب قراءة طبيعتها السياسية، وخريطتها الطبقية، وخريطتها المكانية، وخريطتها العمرية،...، إلخ، - الحركية المواطنية القاعدية الجديدة مصطلح تبنيناه في كتابنا قيد الطبع: مواطنة بلا أوصياء - بعيدًا عن القراءة النمطية التي تنتسب لزمن انقضى. إذ إن الدينامية المواطنية الجديدة أشمل من الحركية السياسية الحزبية التقليدية المتعارف عليها؛ وظني أنها سيكون لها أثر ممتد عبر الكوكب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن