الأخطر أننا نحيا عصر الومضات السريعة في كلّ تفاصيل الحياة، وإنتاج كثيف للصور الومضات، والفيديوهات الطلقة الحاملة للضجر واصطناع السعادة والزيف، وانفجار الذوات الرقمية المليارية والمليونية كمحاولات لإثبات حضورها في الدنيا، عبر الشذرات، وشظايا السرديات الومضات والصور الومضات فائقة السرعة في استهلاكها!
ثمة حالة من الولع والشبق شبه الجنوني بالأنا الملتاثة والمهمومة بإثبات أنها هنا! ..هنا!، وليست محض وجود فعلي فيزيقي غامض وملتبس وغائب في فيضان التفاصيل اليومية الضائعة في ذاكرة النسيان. إنها صرخة في مواجهة الموت في الحياة في عصر الومضات فائقة السرعة ما بعد اللحظية وما دونها!. إنها حالة تحوّلت فيها الحياة الرقمية في عالمنا العربي للتنفّس من حالة كتم الأنفاس وغياب الحرية، وإلى ثورة هائجة تحاول الجماهير الرقمية الغفيرة التزاحم في وضعية الصراخ: "أنا.. أنا.. أنا.. إسمعوني أنظروا إلى صوري.. أنا هنا أنا موجود أنا لي رأي!".
هروبٌ من جحيم السياسة والاقتصاد والعنف والحروب والنزاعات إلى إدمان الاستهلاك الرقمي
من ثنايا خلايا وأنسجة لغة الصراخ الشذرية والصور والفيديوهات الطلقة تبدو ملامح الخوف من النسيان، ووضعية التهميش والإقصاء والإهمال واعتقال الروح والجسد العربي.
في هذه السياقات السوسيو-نفسية الرقمية والفعلية، تبدو الصور الومضات والكتابة الشذرة علامة على الاستهلاك فائق السرعة، وتجسيدًا للإدمان الرقمي، والتشيوء الفعلي المعكوس رقميًا حيث يغيب كل ما هو طبيعي لصالح التمثيل والاستعراض وفق "جي ديبور" في مجتمع الاستعراض.
إنها الحياة الرقمية الكونية والعربية حيث الهروب من جحيم السياسة والاقتصاد والعنف المادي والرمزي والناعم والحروب والنزاعات إلى إدمان متع الاستهلاك الرقمي وأشيائه كي تلعب الأنا لعبة وجودها الرقمي!. في عالم وصفه الأنثربولوجي "مارك أوجيه" في "الزمن أطلالًا" بأنه "الطافح بالصور والأخيلة والتشكيلات.. عالمنا العنيف الذي لا يتسع وقته للانقضاض كي نصبح أطلالًا".
يبدو أنه سيتسع وسنغدو، بل أصبحنا، أطلالًا في عالم البيانات الضخمة، ويعاد تشكيلنا وتهميشنا في المقبل من السنوات إلى أشياء مهملة بفضل تمدّد عالم الروبوتات. من هنا سيزداد الولع الهادر بتصوير الذات "سلفي" في كل التفاصيل اليومية في المنزل والعمل والحدائق وأمام الأشجار، في المحلات والمطاعم والمشارب ومع الزوجة والعشيقة والصديقات والأصدقاء، في الأماكن الأثرية وأمام الأنهار والبحار والقرى والمدن والطائرات والقطارات والعربات العامة والخاصة، وفي المنتجعات والمقاهي والمشارب في كافة التفاصيل اليومية.. إنها "الأنا.. أنا.. أنا.. أنا!".
تجسّد الحياة الرقمية في العالم العربي "الأنا" المعتقلة والمهمّشة والمنفية
الأنا في صور الفتيات والسيدات وهنّ يستعرضن إنتاجهن العلمي في فخار ويقدّمن أبحاثهن في الندوات، وهناك من يستعرضن مفاتنهن المحمولة على الغواية بعد عمليات التجميل، ولا بأس في ذلك، إلا أنّ كثافة عرض هذه الصور الومضة يرمي إلى اجتذاب التفضيلات، صور ومضات ناطقة "كم أنا جميلة وفاتنة وغاوية وحواسية ومثيرة.. أنا في الطائرة.. أنا في المطار.. أنا في الفندق.. أنا في الشارع الباريسي واللندني والنيويوركي والمونتريالي الشهير!"، أنا مشغولة بذاتها! تذكّرني برأي لأندريه تاركوفسكي - في عز الأمبراطورية الفلسفية الماركسية التي وسعت أمالها دنيانا - عن الإنسان الغربي والديمقراطية والفن، قال إنها "منحت الإنسان فرصة أن يشعر بنفسه حرًا، حتى انتزعت منه - في واقع الأمر - الإيمان بأي إنسان آخر ما عدا نفسه، حتى في الفن الذي يصفه تاركوفسكي بأنه من عصر النهضة "عويل دائم للروح الإنسانية التي تعبّر عن آلاف النزعات.. أنظروا كيف أنا سعيد.. أنظروا كيف أنا حزين.. كيف أتعذّب.. كيف أحب.. كيف أحارب الشر.. كيف أموت.. كيف أنتصر.. أنا.. أنا.. أنا.. أنا".
تجسّد الحياة الرقمية في العالم العربي وحرياتها التعبيرية - المراقبة سلطويًا وأمنيًا ومن الشركات الرقمية الكونية العملاقة - والصور الومضات سعي الأنا المعتقلة فيما وراء سياجات ومعتقلات السياسة والأفكار والاعتقادات والأديان والمذاهب والكبح للنوازع الفردية إلى التحرّر عبر الصراخ الرقمي والصور والفيديوهات الطلقة الناطقة بهذه الأنا المعتقلة والمهمّشة والمنفية فيما وراء قيود الواقع الكارثي في حياة بلا حرية ولا عدالة ولا أمل!.
من هنا صراخ الأنا الرقمية "أنا أعمل.. أنا أتنزّه.. أنا حزين!"، وحيث تبدو سرادقات العزاء الرقمية تعبيرًا عن حزن ساكن وخشبي لا روح فيها! والفقد يبدو محض كلمة لا حياة فيها! ظاهرة عامة وعارمة وشاملة للجماهير الرقمية الغفيرة من العاديين إلى الكتاب والصحفيين- غادرتهم مهنتهم الورقية ورحلت - والباحثين والروائيين والشعراء والقصاصين.. إلخ.. "أنا في مؤتمر.. أنا في ندوة.. أنا أتكلم.. أنا ألقي شعرًا.. أنا أتحدث عن روايتي.. أنا أشكر النقاد البارزين.. أنا أسافر إلى معرض الكتاب في هذه البلد أو تلك.. أنا ترجمت روايتي.. أنا أشكركم على تهنئتي بعيد ميلادي.. هذا عيد ميلاد فلذة كبدي".
تحوّلت اللغة الرقمية وصورها إلى لغة الموت البصرية والكتابية
وفي ذكرى وفاة أمه أو أبيه يقيم سرادق عزاء رقمي، إنها الأنا الجريحة! ووراءها عدم التحقّق في الحياة والعمل والزواج والحب، والإنجازات الكاذبة أو الهشّة أو الفارغة والحاجة إلى اعتراف ما من كتل هلامية أو من بعض الأصدقاء بحثًا عن استجابات ما تعزّز من تحقّق ما للأنا، يبدو غائبًا أو غائمًا أو متدثرًا بأردية اللاتحقّق! حيث الصور ومضات، وتلقيها واستهلاكها ومضاتي وخشبي، إذا جاز التعبير، ولا تترك مع الكتابة الشذراتية أثرًا! والتفضيلات سريعة، والتهنئة والتعزية في الموت، لغة خشبية وساكتة فاقدة الروح وسابقة التجهيز والأحساس ولا نبضات فيها!
أدّت الصور الومضات والكتابة الشذرية الميته إلى لغة الموت والفرح المُعلّب!، وتحولت اللغة الرقمية وصورها إلى لغة الموت البصرية والكتابية. ثمة موت اللغة الفاتنة واكتشافاتها الأسلوبية وعوالمها السرية الغامضة في أسرارها الساحرة!.
الصور الرقمية الومضات والفيديوهات الطلقة تعبّر عن أنا تبحث عن إثارة انتباه الآخرين للاهتمام بها، إنها أنا تبحث عن تحقّق ما فيما وراء وجودها الفعلي الفيزيقي، إنها حالة سوسيو-نفسية ووجودية للتزاحم الأنوي والسعي عن تضامنات ودعم لها في عالم يغشاه الخوف المحلّق في آفاقه!.. عالم عربي، لا تزال هناك استثناءات مغايرة لهذه الوضعية إلا أنها محدودة.
(خاص "عروبة 22")