بصمات

"النظرية" وحدود كونيّتها التفسيرية في ظل الفضاء الرقمي

سعيد علي نجدي

المشاركة

إن الاشكالية الأهم اليوم على صعيد العلوم الاجتماعية هي ما يخص إنتاج المفاهيم والنظريات التي تقف على عتبة الفهم المجتمعي، خصوصًا أننا تعاملنا مع العلوم الاجتماعية بشكل إسقاطي على الأنساق التي نقوم بملاحظتها، وهنا نكون أمام إشكالية أيهما يسبق هل النظرية تسبق الحقل، أم أنّ الحقل هو الذي يحدد ما يمكن إستخدامه وهنا نكون أمام عمليات إبداع للمفاهيم، بمعنى الخروج من المفاهيم المسبقة بشكل جاهز والتي تعمل على إعاقة المعرفة المجتمعية.

وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال مهم: ما هي الأطر التي تُمكّن الباحث من توليد النظريات التي تخص السياق المجتمعي الذي ندرس، هل نحن بحاجة إلى نوع من أنواع الحرية، لأننا نعرف أنّ العلوم الاجتماعية بحاجة إلى توفير البيئة التي تتيح للباحث أن يشتغل بغض النظر إن كان ذلك سوف يطال حقل السلطة، لذلك يدخل الباحث في أحيان كثيرة بعملية تواطؤ، لهذا يختار نموذجًا من نماذج القول النظري والتي تمارَس بشكل مشوّه.

إلا أنّ النظريات لا يمكن بحال من الأحوال ان تكون كونية على صعيد التفسير، لذلك فإنّ حدود النظرية وكونية تفسيرها، تقف عند تعدد السياقات المجتمعية.

وهذا ما عطل إلى حد كبير العقل الإبداعي في ما يخص العلوم الاجتماعية العربية، وتحوّل معها العقل إلى عقل قياسي، كل باحث يقيس من إطاره المرجعي للنموذج الذي يعتمده، فالكثير ما يزال يقارب المواضيع من خلال المدارس الرئيسية والتي ما عادت إلى حد كبير قادرة على تفسير التحولات التي تشهدها المجتمعات، خصوصًا أننا اليوم أمام عتبات كبيرة من التطور التكنولوجي وأنماط مغايرة من التفكير.

نحن أمام وعي جديد خصوصًا لهذا الجيل الذي يتفتح وعيه على شاشات الفضاء الرقمي

من هنا سؤال ينفتح أمامنا وهو هل نستطيع الإعتماد مثلًا على أدوات منهجية سابقة، ونحن أمام وعي جديد، خصوصًا لهذا الجيل الذي يتفتح وعيه على شاشات الفضاء الرقمي، والذي تختلف اليوم وسائل التعبير لديه، وأيضًا حتى أدواته من لعب ولهو قد اختلفت، من هنا اكتشافه للعالم ما عاد يمر بالتقنيات المسبقة المعطاة لديه، لأنه أصبح يتعّرف على العالم، بشكل مباشر من خلال الشاشات.

والسؤال الآخر، كيف يؤثّر العيش في هذا الفضاء الرقمي المفتوح، على الوعي، خصوصًا عندما يعود إلى الفضاء الملموس الذي يعيش فيه، وهنا التنقل في الفضاءات المتعددة، وكيف يؤثر ذلك على شخصيته؟.

وبالتالي، إلى أي حد نحن بحاجة إلى إطلاق ديناميات بحثية وتوفير المستلزمات لها، إنطلاقًا من الميدان التي نشتغل عليه والذي يعطينا الأدوات من خلال العلاقة الحية مع الموضوع، حتى نصل إلى عملية فهم للنسق المجتمعي الذي نعمل عليه، من خلال أنماط التفكير المتعددة والتحولات التي شهدتها مجتمعاتنا، والأهم العلاقة مع الدولة، حتى نستطيع إنتاج نظريات مفسّرة تخصّ المجتمع العربي والذي هو بطبيعة الحال نسق كغيره له خصوصياته، إنطلاقًا من ما يستبطنه من مفاهيم داخل الأطر المعرفية التي يتشربها.

منزل الفضاء الرقمي

تبرز أمامنا مسألة وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، أي ما يقارب الـ15 سنة الأخيرة، بشكل كبير ومتزايد، وهذه الوسائل الافتراضية توهم للوهلة الأولى، أننا نعيش في منزلة الحاضر رمزيًا، لأنها تسحب الفرد من وسطه الاجتماعي الحقيقي الذي لا يؤمّن له الرغبات تحت ضغط الحاضر وكثافة تعبيراته، فتتحوّل إلى مستوعب لتفريغ الرغبة في العيش في الحاضر، وكأنها وسيلة لإجهاض الفعل في الحقيقة واستبداله في الفضاء الرقمي، وهذه التقنية لا بد من ملاحظتها لدى الباحثين لأننا نستخرج منها أدوات للفهم من خلال ما يتم التعبير عنه من قبل شتى الفئات في المجتمع، وبوصفها عيشًا في الفضاء الرقمي، والتي أتت هذه الوسائل والتقنيات لتوفر مزيدًا من إغتراب هذا الكائن وانفصاله بشكل متزايد عن واقعه، وفي أي منزلة هو يعيش، ربما في وسطه ومجاله المجتمعي هو شخص منبوذ، فيقوم بتعويض ذلك بخلق نوع من أنواع الرأسمال الاجتماعي ولكن بشكل موهوم، لتصبح أشبه بـ"أفيون الإنسان التعيس".

بدل عيشهم الحاضر على أرض الواقع كُثُر يوحون أنهم يعيشونه ولكن في الفضاء الرقمي

في هذا السياق أتت هذه الوسائل في لحظة ربما كان الانسان العربي بحاجتها، ولكنها بالوقت ذاته قاهرة، خصوصًا أنها مفتوحة، لهذا تصبح قاهرة لناحية رؤية إمكانيات العالم الضخمة، أمام إمكانياته والحدود المتاحة لفعله، فيتم تمرير ما هو متخيّل ليمارَس في هذا الفضاء بدل ممارسته على أرض الواقع، من هنا هي تكشف عن ما هو وضع الكائن لناحية المراسيل التي يرسل منها، والتي تعبّر أكثر عن منازل التفكير التي تحوي هذا العقل، ليصبح هذا الفضاء حاويًا لتلك المنازل التي تستبد وتتحشد بصورة أكبر من خلال ما تؤمنه من منافذ مفتوحة للتعبير، حتى وإن كانت بأسماء مستعارة بسبب الخوف من دوائر وحقول المجتمع، إلا أنها تعمل على إشباع وتنفيس مؤقت، وهذا يؤدي بالكثر إلى أنهم بدل عيشهم الحاضر على أرض الواقع، فإنهم يوحون أنهم يعيشونه ولكن في الفضاء الرقمي، ما يخلق نوعًا من التعارض.

وهنا التعارض، تعارض في الشخصيات أي في المنازل واستعاراتها، في الواقع قد أعيش شخصًا معيّن، وفي الفضاء الرقمي قد أكون مكرّسًا على نحو آخر للعب أدوار أخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن