بصمات

هل من سبيل إلى ترسيخ "ثقافة المواطنة" عربيًا؟

لئن ادّعت المركزية الثقافية الغربية افتقار الحضارة الإسلامية إلى مفهوم المواطنة، فإنّ محاولات تجاوز ذلك الموقف الاختزالي النمطي لم تتوقّف طيلة العصر الحديث. ويمكن التذكير في هذا الصدد بجهود المفكّر خالد محمد خالد التي ضمّنها في كتابه "مواطنون لا رعايا" الصادر سنة 1950 باعتباره شكلًا من أشكال تأصيل مفهوم المواطنة من رحم المرجعية العربية الإسلامية. وبقدر ما تواصلت تلك الجهود عبر تيّارات إيديولوجية وفكرية مختلفة لترسيخ ثقافة المواطنة بالعالم العربي الإسلامي، فإنّ النتائج المتوصل إليها لم تكن في مستوى حجم الرهانات المأمولة على مختلف المستويات.

هل من سبيل إلى ترسيخ

تكشف جلّ المؤشّرات السوسيوثقافية أوضاعًا اجتماعية مناقضة تمامًا لمقتضيات المواطنة وثقافتها القائمة على تساوي جميع الأفراد أمام القوانين، وتكافؤ الفرص، وترسيخ مبادئ الشفافية والنزاهة والكفاءة سلوكيات اجتماعية ملموسة. إذ يسود التحايل على القوانين والمروق عليها إلى حدّ يتم فيه الانزياح عن وظيفة القانون من حماية الفئات الضعيفة وتوفير الضمانات التشريعية والحماية القانونية والاجتماعية لها، إلى آلية من آليات الإنهاك النفسي والمادي بحكم ما قد تتطلّبه العدالة القانونية والاجتماعية من مسارات متشعّبة ونفقات كبيرة. بينما تستطيع الفئات النافذة المتمكّنة ماديًا التحايل على القوانين وتوظيفها لمصالحها باستغلال بعض الثغرات القانونية وقابلية النصوص القانونية لتأويلات متعدّدة وعلاقاتهم الواسعة بمختلف الفاعلين الاجتماعيين.

منطق الولاءات البالية يتناقض كلّيًا مع ثقافة المواطنة الحقيقية

إذا كان بعض الجمعيات النسوية بالبلدان العربية التي لها تاريخ في الحركة النسوية يطالب من حين إلى آخر بالمساواة الكاملة مع الرجل في الميراث أو حق منح الجنسية للقرين الأجنبي والتناصف في القائمات الانتخابية، فإنّ تلك المطالب تبدو في حقيقتها أقرب إلى شعارات دعائية تُرفع في إطار المناكفات السياسية ولغايات انتخابية غالبًا. ذلك أنّ واقع تمكين المرأة العربية يكشف بوضوح وضعها الاجتماعي الهشّ فهي - على سبيل الذكر - محرومة في الميراث حتّى من أن ترث نصف ما يرثه الرجل في الأوساط الاجتماعية العربية "الأبوية".

تشترك وضعية ذوي الاحتياجات الخصوصية مع وضعية المرأة في الهشاشة الاجتماعية. وتتميّز عنها في أنّه على الرغم من مصادقة جلّ الدول العربية على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وبرتوكولها بداية الألفية بخصوص حقّهم في المشاركة السياسية الفعالة فضلًا عن حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، فإنّهم لم ينالوا "الحظوة الاجتماعية" المناسبة لهم، بل قد يتمّ إقصاؤهم رغم تميّز بعض أفرادهم في المجالات العلمية والرياضية والثقافية. ولعلّ هذا يعود إلى ضعف تكافؤ الفرص، وسطوة منطق الولاءات البالية على الحياة السياسية والثقافية العربية. وهو منطق يتناقض كلّيًا مع ثقافة المواطنة الحقيقية.

لا جدال في وجود عوامل بنيوية عميقة تقف وراء تلك الوضعية. وقد ذكر في هذا السياق المفكّر الإيراني عبد الكريم سروش مثلًا بليغًا أشار فيه إلى أنّ "السمك يفسد من رأسه" في محاولته تفسير ظاهرة التحايل على القوانين. ويعني بذلك أنّه في غياب القدوة السياسية العليا التي تلتزم ذاتيًا بتطبيق القوانين مهما كانت سلطتها مادية أم رمزية، فإنّه يستحيل امتثال بقية أفراد المجتمع حتّى لقوانين الطرقات مثلًا لا سيما أنّ ذلك الانحراف السلوكي استمرّ طيلة قرون من الاستبداد والفساد. إذ يوجد نسق ثقافي تليد لم تزده مكتسبات العصر الحديث التكنولوجية والاتصالية إلا قدرات على التمدّد والتأثير في ظل تفشّي الأمية والجهل المركّب. وقد حوّل الغرب - الذي يتعامل مع حقوق الإنسان تعاملًا انتقائيًا - ذلك المعطى إلى ورقة ضغط يكيّفها حسب مصالحه واستراتيجياته.

أهمية تطوير دور الجامعات العربية لتكون قاطرة التغيير وإعداد منظومة تشريعية وقانونية تحدّ من "البيروقراطية"

بيد أنّ ترسيخ ثقافة المواطنة بالعالم العربي يظلّ أمرًا ضروريًا وخيارًا استراتيجيًا لاستقرار المجتمعات العربية وتركيز جهودها في معالجة قضاياها المصيرية الداخلية والخارجية. لذا لا بدّ من توفّر جملة من الشروط الذاتية والموضوعية، في مقدّمتها وجود إرادة سياسية حقيقية في إحداث قطيعة مع مختلف عناصر "البداوة الذهنية" ليتسنّى تحقيق حداثة سياسية فعلية. وهذا لا ينفصل عن أهمية تطوير دور الجامعات العربية لتكون قاطرة التغيير المأمول. وهو ما يقتضي إعادة النظر في حقيقة الأدوار الموكولة إليها وعلاقاتها بمحيطها وبالسياسات الثقافية والتربوية المعتمدة وبالفضاء العمومي إجمالًا. ولا شكّ أنّ هذا التصوّر الجديد يستدعي إعداد منظومة تشريعية وقانونية تواكب المتغيّرات، وتدعم المبادرات الفردية، وتحدّ من سطوة "البيروقراطية".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن