يشكو المواطنون في مصر من أنّ طلب اللاجئين على العقارات والسلع والخدمات في مصر، قد أدى إلى رفع أسعارها ومعاناة المصريين من جراء ذلك. وفي بلد تشير نتائج آخر تعداد أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى وجود 2 مليون مبنى متعدد الشقق وكامل التشطيب وغير مأهول، ويجري فيه إضافة كتلة عملاقة للعقارات في العاصمة الإدارية وغيرها، فإنّ الارتفاع المبالغ فيه لأسعار العقارات وإيجاراتها، ناتج عن الموجة التضخمية بسبب تخفيض سعر صرف الجنيه، وعن فوضى التسعير وغياب الدور الحكومي في ضبط تلك الأسعار.
فوضى أرقام اللاجئين
لا يوجد حصر دقيق للاجئين في مصر، لأنّ العدد الأكبر منهم دخل مصر بطرق غير رسمية. وبينما تشير المصادر الرسمية إلى أنّ عدد اللاجئين السودانيين في مصر يبلغ نحو 4 ملايين، فإنّ عدد المسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين بلغ 387 ألفًا حتى يونيو الماضي، إضافة إلى 250 ألفًا ينتظرون التسجيل لدى المفوضية.
المشكلة أساسًا في السياسات الاقتصادية الحكومية وفي تمدد أجهزة الدولة في الاقتصاد المدني
وقبل انفجار الصراع الدموي بين الجيش الرسمي والميليشيا القبائلية العنصرية "الدعم السريع"، كان عدد اللاجئين من السودان، بشماله وجنوبه، المستقرين في مصر يُعد بالملايين، وارتفع العدد ليصل إلى 4 ملايين وفقًا للتقديرات الرسمية المصرية وتقديرات منظمة الهجرة الدولية بعد انفجار صراع العسكر على السيطرة والاستحواذ على الجغرافيا والموارد والبشر في السودان. أما السوريون فإنّ المصادر الرسمية المصرية تشير إلى وجود 1,5 مليون سوري في مصر، بينما تشير مفوضية اللاجئين إلى أنّ الأعداد المسجلة لديها تبلغ 154 ألفًا فقط.
اللاجئون والنشاط الاقتصادي.. الأعباء والفوائد
ينظر البعض إلى اللاجئين على أنهم مجرد عبء ثقيل على الاقتصاد المصري بسبب التحميل الإضافي على البنية الأساسية والطلب الإضافي على السلع والخدمات مما يساهم في رفع أسعارهما. وهذا جانب واحد للحقيقة، لأنّ ذلك الطلب الإضافي يؤدي في أي اقتصاد متحرّك ونشط إلى حفز المستثمرين لإقامة مشروعات جديدة تلبي هذا الطلب الفعال، وتخلق المزيد من الوظائف وتوزع المزيد من الأجور مما يؤدي إلى المزيد من تنشيط النمو الاقتصادي.
والمشكلة تكمن في أنّ موجة اللجوء تحدث في وقت يمر فيه الاقتصاد المصري بأزمة خلقتها السياسات الحكومية وغياب فقه الأولويات، وهيمنة شركات أجهزة الدولة على التعاقدات العامة وانفرادها بميزانيات خاصة بعيدًا عن الموازنة العامة للدولة، مما أدى لتراجع النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، في ظل تفاقم عجز الموازين الخارجية والتورط في الاقتراض قصير الأجل الذي أدى لاضطراب الجنيه المصري وانخفاض سعر صرفه مقابل الدولار بصورة تعقّد أي حسابات مستقبلية تبنى عليها الاستثمارات.
يضخ السوريون والسودانيون ممن لديهم مدخرات كبيرة استثمارات حقيقية في الاقتصاد المصري
إذن المشكلة أساسًا في السياسات الاقتصادية الحكومية وفي تمدد أجهزة الدولة في الاقتصاد المدني. وبالمناسبة من يتابع أسعار العقارات الداخلية والساحلية سيدرك أنّ ارتفاعها لا علاقة له باللاجئين، بل بمن يملكون المال من المصريين والعرب، سواء كان مصدره شرعيًا، أو جاء من الاقتصاد الأسود ممن يعملون في تجارة الآثار والمخدرات والدولار والسلاح.
استثمارات يقابلها نزح "طبيعي" للدولار من السوق
يضخ السوريون والسودانيون ممن لديهم مدخرات كبيرة، استثمارات حقيقية في الاقتصاد المصري. وتقدّر منظمة الهجرة الدولية قيمة الاستثمارات التي ضخها نحو 30 ألف مستثمر سوري صغير ومتوسط بنحو مليار دولار. وتلك الاستثمارات حقيقية، أي أضافت أصولًا إنتاجية وخدمية جديدة للاقتصاد المصري، وخلقت وظائف يشغلها غالبًا العمال من اللاجئين السوريين، حيث تغض مصر الطرف عمن يعملون بدون ترخيص انطلاقًا من الإيمان الراسخ بعمق الروابط بين الشعب المصري والشعبين، السوداني حيث تتجلى أخوة النهر والتاريخ الحضاري، والسوري حيث تتجلى أخوة الدم في المعارك التاريخية الكبرى التي خاضاها معًا من العهد القديم والوسيط وحتى حرب أكتوبر 1973.
لكن بالمقابل فإنّ المستثمرين السوريين والعاملين لديهم، يقومون بتحويل جزء من أرباحهم ودخولهم بالدولار بصورة رسمية أو غير رسمية، لأسرهم في سورية التي تعاني من وضع اقتصادي معقّد وحرج في ظل الحصار الأمريكي والغربي لها. وهذا ينزح جزء حتى ولو صغير من حصيلة مصر الدولارية للخارج. لكن كل الاستثمارات الأجنبية العاملة في مصر تقوم بالشيء نفسه، أي تحوّل أرباحها لبلدانها بالدولار وبالسعر الرسمي وبأحجام هائلة تبلغ مئات أضعاف التحويلات الصغيرة التي يحوّلها السوريون أو السودانيون لبلديهما. وقد بلغت قيمة المدفوعات المحوّلة للمستثمرين الأجانب للخارج نحو 19,5 مليار دولار عام 2022/2023، وهي في مجملها تقريبًا أو غالبيتها الساحقة للمستثمرين الأمريكيين والأوروبيين والخليجيين.
الفشل في الحصول على حقوق اللاجئين من المجتمع الدولي
تُقدّم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين دعمًا بائسًا كليًا ويغطي عددًا محدودًا للغاية من اللاجئين السودانيين والسوريين في مصر. وحتى الآن لم تنجح مصر في إدارة ملف اللاجئين للحصول لهم على دعم مقبول من المؤسسات الدولية أو من أوروبا ومؤسساتها المعنية بهذا الملف. ولو غضت مصر الطرف عن رحلات العبور من الساحل المصري إلى أوروبا كما فعلت تركيا وحصلت مقابل التعهد بإيقاف هذا التيار من الهجرة غير الرسمية وإعادة قبول المهاجرين الذين يصلون للجزر اليونانية، على 6 مليارات يورو في اتفاق عام 2016، فإنّ أوروبا هي التي ستأتي لمصر وتبحث بجدية في دعم اللاجئين وإبقائهم في مصر بصورة لا تشكّل عبئًا على الاقتصاد المصري.
لجوء الحكومة المصرية إلى زيادة الرسوم على اللاجئين سلوك بعيد تمامًا عن أخذ حقهم من المجتمع الدولي
وبالمناسبة فإنّ تركيا بصدد الحصول على حزمة جديدة من المساعدات بقيمة 3 مليارات يورو، وتطالب بالإضافة لذلك بإعفاء مواطنيها من تأشيرة الدخول للاتحاد الأوروبي، وبتجديد اتفاقية الاتحاد الجمركي المطبّقة منذ عام 1996. أما لجوء الحكومة المصرية إلى زيادة الرسوم على اللاجئين بدلًا من استقطاب الدعم الدولي لها ولهم، وإلى إغلاق عدد من المدارس السودانية غير المرخصة بدلًا من التعاون في ترخيصها مع السفارة السودانية، فإنه سلوك بعيد تمامًا عن أخذ حق اللاجئين من المجتمع الدولي وبخاصة أوروبا عبر الضغط على هذا المجتمع باللاجئين أنفسهم وبهجراتهم إلى أوروبا.