اقتصاد ومال

مصير الاقتصاد الليبي.. حقائق ووقائع!

محمد زاوي

المشاركة

تعرّضت ليبيا لهجمة إمبريالية بقيادة حلف "الناتو" عام 2011، وذلك تحت قناع مفضوح عنوانه "تحرير ليبيا من الاستبداد". وما هي إلا أشهر، وقبل أن يحول الحول على "ثوار الناتو"، حتى ظهرت حقيقة "ثورتهم المباركة". بلاد بلا نظام سياسي موحَّد يحمي سيادتها، واقتصاد ممزَّق بين الرأسماليات وحلفائها هنا وهناك، ومجموعات مسلّحة تتصارع من أجل النفوذ لمصلحتها أو لمصلحة هذه الدولة أو تلك.

مصير الاقتصاد الليبي.. حقائق ووقائع!

حكم معمر القذافي ليبيا مجتمعًا قبليًا أراد له الاستعمار الإيطالي (وغيره من الاستهداف الإمبريالي الجديد) أن يبقى كذلك. وكانت ليبيا قبل خطة التأميم ثروات خامة تستنزفها شركات أجنبية تحميها قواعدها العسكرية المنتشرة عبر ربوع البلاد.

القذافي الذي أنفق جزءًا من أموال الليبيين على تحرر دول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، يُحسَب له أنه حرّر البلاد نهائيًا من الاستعمار، فأمم ثرواتها من نفط وغاز وأجلى القواعد العسكرية الأجنبية ووفر كثيرًا من احتياجات المواطن الليبي.

الصراع على الأرض الليبية ليس صراعًا سياسيًا محضًا إنّما هو صراع من أجل النفوذ يرعاه ويتدخل فيه الاستعمار

هناك من يغفل هذه العلاقة الوطيدة - والمعقدة في الوقت نفسه - بين الاقتصاد والسياسة، وهناك من يعتقد أنّ تغيير نظام الحكم في بلدٍ ما كفيل بتغيير نموذجه الاقتصادي تلقائيًا وبدون شروط. والحقيقة أنّ العلاقة بين السياسي والاقتصادي قائمة ووطيدة، إلّا أنّ السياسة لا تؤثر في الاقتصاد إلّا بمقدار يفرضه واقعها وواقع الاقتصاد نفسه.

الوحدة السياسية كما تكون "تعبيرًا مكثفًا" عن وحدة اقتصادية، فإنّها تنتج وحدتها الاقتصادية، ولكن إذا ما ترسخت وسيطرت على الاقتصاد إنتاجًا وتوزيعًا، وليس بمجرد تغيير نظام بآخر. وبغض النظر عمّا يمكن أن يعاب على تدبير القذافي في عالم يتجاوزه، إلّا أنّه ساهم إلى حد كبير - من خلال سيطرته على السلطة - في توحيد القدرات الليبية وتأميمها. وبمجرد انهيار النظام السابق وتعسّر تشكل نظام جديد، عاد الاقتصاد إلى سابق عهده، مجزّءًا وشبه راكد وعرضة للأطماع الاستعمارية.

لقد خضعت ليبيا للواقع الاستعماري نفسه الذي خضعت له دول أخرى عربية، حيث تم تحويل كثير من أنشطتها وبنى إنتاجها تحويلًا قسريًا إلى نمط رأسمالي زراعي أو صناعي، كما تم استحداث أنواع أخرى من الرأسمال بها (مصرفي. خدماتي، الخ)، تلبية لمصلحة الاستعمار الإيطالي وعلى حساب مصالح الليبيين (محمد مصطفى الشركسي، لمحات عن الأوضاع الاقتصادية في ليبيا أثناء العهد الإيطالي، الدار العربية للكتاب، 1976). فأدّى التدخل الاستعماري إلى إيقاف إمكانات التقدّم الطبيعي في ليبيا.

وإذا علمنا أنّ ليبيا ليست قديمة عهد بنظام دولة، أمكننا التنبؤ - وهو الذي حصل فعلًا - بأنّ تأثير الاستعمار عليها سيكون أسوأ من غيرها، وأنّ استقرار نموذجها الـ"ما بعد استعماري" سيتطلب وقتًا أكبر، وهو ربما الزمن الذي حاول القذافي اختصاره بـ"المؤتمرات الشعبية" وبما أسماه نظام "الجماهيرية"، فربما رأى هذا النظام أنّه كفيلٌ بنقل مجتمع قبلي إلى مجتمع حديث يؤسّس حاضنة مجتمعية لنموذج حديث في الاقتصاد.

خطأ القذافي أنّه أراد إنجاح هذا النموذج بنفس تحرري لا يبالي بميزان القوى الخارجي، وهو ما لم تكن تقوى عليه حتى روسيا والصين آنذاك. فماذا كانت النتيجة؟ تدخل استعماري إمبريالي سافر في 2011، عوّض تدخلًا مستعصيًا (تدخلًا غير مباشر) بتدخل مباشر أصبح متاحًا تحميه طائرات "الناتو" جوًا وتنفذه "ثورة ملونة" على الأرض. وقد أدى تدخل "الناتو" في ليبيا إلى:

- إضعاف قدرات ليبيا التبادلية؛ خاصة في سوق النفط والغاز، حيث تراجَع إنتاجها اليومي مقارنة بفترة حكم القذافي. ولو استمرت "ليبيا القذافي" إلى اليوم لأحدثت إرباكًا في سوق النفط الإمبريالية، ولأصبحت عضوًا فاعلًا في "أوبك". ليس النفط والغاز ما كانت ليبيا تعدّه لتراجع الأحادية القطبية فحسب، وإنما مشاريع أخرى على رأسها العملة الأفريقية بما تتيحه من إمكانات لتحرير العالم من عملة البترو-دولار. أما اليوم فقد تراجعت قيمة العملة الليبية نفسها نتيجة تضخم مضاعف (دولي ومحلي)، وقد أصبح المواطن الليبي يعاني من ارتفاع الأسعار أكثر من أي وقت سابق.

تفكك الدولة لا يصب إلّا في مصلحة الرأسمال الأجنبي الذي لا يقبل بوحدة تُضعِف وجوده الاقتصادي في ليبيا

- استنزاف النفط الليبي إمبرياليًا، إذ إنّ الصراع على الأرض الليبية ليس صراعًا سياسيًا محضًا، وإنّما هو صراع من أجل النفوذ ويرعاه ويتدخل فيه الاستعمار قبل التوصل إلى قسمة اقتصادية (طاقية) تعكس نفوذًا في السياسة. وتأكيدًا للمفارقة بين زمنين، فإنّ الشركات النفطية الأجنبية استعادت وجودها واستأنفت نشاطها في ليبيا، مباشرة بعد إسقاط نظام القذافي. وقد تقاسمت هذه الشركات حصة كبيرة من النفط الليبي، تستفيد منها رأسمالات كبرى: الرأسمال الأميركي عن طريق شركتي "أوكسيدنتال بتروليوم" و"إكسون موبيل"، والرأسمال البريطاني عن طريق شركة "بريتش بتروليوم"، والرأسمال الفرنسي عن طريق شركة "توتال"، والرأسمال الإيطالي عن طريق شركة "إيني".

الأزمة في ليبيا ليست أزمة اقتصادية من باب أولى، وإنّما هي أزمة سياسية لم تجد طريقها إلى الحل بعد. ومن شأن هذا الحل إذا ما تم إيجاده أن يحقق الوحدة السياسية، وهذه كفيلة بتنظيم الاقتصاد وِفق استراتيجية واضحة. أمّا تفكك الدولة واضطرابها فلا يصب إلّا في مصلحة الرأسمال الأجنبي الذي لا يقبل بوحدة تُضعِف وجوده الاقتصادي في ليبيا، أو لنقل: لا يقبل إلّا بوحدة تحفظ مصالحه الاقتصادية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن