بالرغم من تعدّد المنظورات وتباينها، فإن الثقافة الاستراتيجية، تحوّل النظر إليها من دراسة تَمثُّل وإدراك القيادات الاستراتيجية لقضايا الأمن والنزاعات والسلام، إلى منظور أوسع وهو تأثير المكوّنات الثقافية على المجتمع بكامله، في عملية إدراك وفهم وتَمثُّل التهديدات الأمنية وغيرها. وخصوصًا بعد النظر إلى مفهوم الأمن بشكل شامل حيث الاهتمام بالأمن العسكري والاقتصادي والبيئي والاجتماعي والغذائي، وبشكل أكبر مستقبل كيان دولة ما.
ولقد قام جاك سنايدر "J. Snyder"، بتدشين حقل الثقافة الإستراتيجية، في السبعينيات، من خلال كتابه حول "الثقافة الإستراتيجية السوفياتية" والذي حاول من خلاله فهم تأثير ثقافة القيادة السوفياتية في الميل إلى اتخاذ قرار الهجوم النووي. ولم ينفلت الجيل الثاني من الباحثين في الثقافة الإستراتيجية من منظور "جاك سنايدر" حيث ثم التأكيد على كون الثقافة الإستراتيجية مرتبطة بالمصلحة الوطنية التي صاغها منظّرو المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة. لكن بالرغم من ذلك حاول هذا الجيل الثاني توسيع نطاق البحث في الثقافة الإستراتيجية واعتماد مداخل جديدة، لكن مع هيمنة تغليب الجوانب والأبعاد المادية في تشكيل الثقافة الاستراتيجية.
لإخراج الثقافة الاستراتيجية من بُعد التوجّس والخوف من الآخر إلى بُعد بناء التعايش العالمي
لكن الجيل الثالث المتأثّر بشكل كبير بالنزعة النقدية والداعي إلى تجاوز المنظورات الوضعانية وتبني ما بعد الوضعية وما بعد البنيوية، سيعمل على إدخال أبعاد جديدة في فهم الثقافة الاستراتيجية، ومن ذلك مفهوم الهوية والامن الإنساني، وحقوق الأقليات، وغيرها من المفاهيم التي تشكّل عناصر غير مادية. وساهم بذلك التيار التأملي في العلاقات الدولية، بتوسيع النقاش حول محددات الثقافة الاستراتيجية وخصوصًا المدرسة الأخلاقية والنظرية البنائية والمدرسة النقدية وما بعد الحداثة. وقد اعتبر "Kerry Longhurst" وهو من المدرسة البنائية الثقافة الإستراتيجية بمثابة نسق من الاعتقادات والقيم والممارسات التي تحدد استعمال القوة من طرف الدولة وهو نسق تشكّل عبر مسار تاريخي طويل، وبذلك فالثقافة الإستراتيجية ليست جامدة وإنما تتغيّر عبر الزمن والسياقات التي تمرّ منها دولة ما. والمحدد الأكبر في الثقافة الإستراتيجية هو البعد المعياري حيث لجأت مثلًا إدارة بوش إلى إنتاج معيار ثنائية الخير والشر لتبرير الحرب على الإرهاب.
لكن الإسهام العربي في التنظير للثقافة الإستراتيجية، لا زال في مجمله في طور المقاربة الوصفية لهذا النقاش الأكاديمي، ونحن في حاجة إلى إسهام نقدي عربي لتفكيك هذه المنظورات الغربية وبيان تحيزاتها الأخلاقية والمعرفية والسياسية واقتراح منظورات جديدة تخرج الثقافة الاستراتيجية من بُعد التوجس والخوف من الآخر إلى بُعد بناء التعايش العالمي.
المخاطر المتعددة التي يواجهها العرب، تحتاج إلى خطة متعددة الأبعاد
ويمكن القول بعيدًا عن الخلافات النظرية حول مفهوم الثقافة الاستراتيجية، بأنها تعني بالأساس تشارك القيادة الاستراتيجية لبلد ما مع باقي مكونات المجتمع في إدراك وتَمثُّل المخاطر والفرص المتاحة لمجتمع معيّن لتحقيق الاستقرار والرفاهية والاستمرار في الوجود والإسهام في الصرح الحضاري العالمي.
والثقافة الإستراتيجية العربية الجديدة، يفترض أن تساهم في تمكين جميع مكونات المجتمعات العربية من الوعي بمختلف المخاطر التي تهددنا. وهذا يعني أولًا، إرساء معالم ثقة بين القيادات الاستراتيجية العربية والشعوب التي تطمح إلى حق العيش بسلام وكرامة. وبالتالي التقاسم مع المواطنين العرب، المعلومات الاستراتيجية التي تسهم في إدراك حجم وكلفة التهديدات، هذا بالطبع دون إخلال بشرط المحافظة على سرية "المعلومات الاستخباراتية"، فالتوعية الاستراتيجية تشمل المحددات الكبرى، وليس المعلومات الميدانية الدقيقة التي تدخل في إطار صياغة الإستراتيجية الأمنية. والمخاطر المتعددة التي يواجهها العرب، تحتاج إلى خطة متعددة الأبعاد، منها ما هو تربوي، حيث يتعيّن إدماج الثقافة الأمنية والوطنية في المنظومة التعليمية، وتربية الأجيال العربية على الوحدة وليس الطائفية والنعرات الأيديولوجية والعنصرية واستعلاء قُطر عربي آخر، بحيث لا يجب أن تكون التربية الوطنية المستندة على الولاء القطري سببًا مباشرًا أو غير مباشر على التنابذ العربي. كما يجب الحذر من الخطابات الداعية إلى "تكسير الحدود" وغرضها فقط تطبيق فهم ضيّق ومشوّه لخلافة مزعومة مثل ما تروّج له "داعش" وباقي التنظيمات الإرهابية التي تدغدغ وجدان بعض الشباب.
وهناك بُعد آخر تدبيري في هده الخطة يتأسّس على النجاعة والفعالية والواقعية والرشد في "الحكامة"، فالعالم الآن مطالب باعتماد الحكمة بكل مقوّماتها في عمليات التدبير وصياغة السياسات العامة والإجراءات التنظيمية وعمليات التشريع التي من المفترض أن تكون مستوعبة للاستشراف واعتبار المآلات.
الثقافة الإستراتيجية العربية هي انخراط جماعي في الإيمان بأننا نملك قدرات جماعية وفردية على تحقيق التميّز
وهناك بُعد آخر في غاية الأهمية، وهو انخراط كافة أفراد المجتمعات العربية في "عملية علاج نفسي"، تقتضي التخلّص من مشاعر الإحباط وعدم الثقة والحيرة والاعتقاد بأننا غير قادرين على الالتحاق بالركب الحضاري العالمي. ذلك أنّ عملية جلد الذات المستمرة، وتبخيس الكائن العربي وإشاعة حتمية تخلّف العرب، لا شك أنها أكبر عامل على ترسيخ الوهن. ومن المعلوم أنّ الحروب الجديدة تسعى إلى تقويض ليس فقط معنويات الجيوش النظامية وإنما كذلك زعزعة البنيان النفسي لكافة المواطنين في العالم العربي.
كما أنّ مشاعر الخوف والإحباط وعدم الثقة والتوجّس من المستقبل والاستقالة من الانخراط في العمل العربي المشترك، يؤثّر حتمًا في الوضع العربي ككل. ولم يعد بالإمكان اليوم انفراد القيادات الاستراتيجية العربية بالتفكير لوحدها، بل يتعيّن إشراك كافة مكونات المجتمع في صياغة التوجهات المحدّدة لمستقبل العرب.
إن الثقافة الإستراتيجية العربية الجديدة، هي انخراط جماعي في الإيمان والاعتقاد بأننا نملك قدرات جماعية وفردية على تحقيق التميّز واقتناص الفرص المتاحة أمامنا في ظل تحولات عالمية متسارعة، كما أنها ستمنحنا فرصة الولوج الفعلي ككيان موحّد إلى الزمن العالمي، وبالتالي التفاوض الجماعي على المصالح العربية والتشوف إلى انتزاع مقعد في نادي الأقطاب الجدد.
(خاص "عروبة 22")