أسوأ ما في هذه الحملات كل هذا الاجتراء على تزييف التاريخ، وكل هذا الافتراء على جمال عبد الناصر الذي تَوَلَّى كِبْرَهُ جماعات المصالح التي تضررت في عهده، ومجموعات من قوى سياسية ناصبته العداء حيَّا وميتًا، على رأسهم جماعة "الإخوان" وبعض الماركسيين ومعهم مؤرخو الدرجة الثالثة، اجتمعوا في صعيد واحد تحت عنوان وحيد هو تزييف تاريخ ثورة يوليو، وتشويه عبد الناصر، ومحو ذكره، وتلطيخ سمعته.
نوبات الاجتراء على التاريخ الوطني والافتراء على الرموز الوطنية لها رعاة محليون وآخرون من القوى الخارجية
يعيدون كتابة التاريخ حسب أهوائهم، وتبعًا لشهوة الانتقام من عبد الناصر، هو عندهم أول الموبقات التاريخية، وهو آخرها، في نظرهم هو أول العسكر، وليس آخرهم، لم يسبقه إلى حكم مصر عسكري قبله في بلد حكمه العسكريون طول تاريخه، يتسامحون مع أخطاء كل الحكام وخطاياهم، ولكن عبد الناصر في زعمهم هو الخطيئة الكبرى التي بلا غفران.
يصرون على صياغة وعي الأجيال الجديدة التي لم تعاصر تجربة الثورة، ويقدّمون لهم عبد الناصر عبر رؤية "إخوانية"، أو من منظور نظرة ماركسية، "الإخواني" يكرهه كراهة تحريم، والماركسي يكرهه كراهة تنظير.
نوبات الاجتراء على التاريخ الوطني والافتراء على الرموز الوطنية لها طول الوقت رعاة محليون وآخرون من القوى الخارجية، وكلهم أصحاب مصلحة مباشرة في قطع ذلك السلسال المتدفق في نهر الوطنية المصرية وكسر تلك السلسلة المتصلة من الثوار العظام.
من أحمد عرابي إلى جمال عبد الناصر اللذين كان لهما النصيب الأكبر من محاولات الاغتيال المعنوي، بدأت في حياتهما وبقيت من بعد رحيلهما.
في أعقاب ثورة المصريين تحت قيادة أحمد عرابي ضد استبداد الحكام، وضد التدخل الأجنبي في شؤون البلاد، سارعت قوى الاحتلال والاستبداد في إطلاق أكبر عملية اغتيال معنوي لقائد الثورة وكل رموزها، وتتابعت حملات الافتراء على عرابي حتى وصلت إلى تحميله المسؤولية عن احتلال بريطانيا لمصر.
الأمر نفسه تكرر بعدها مع ثورة 23 يوليو/تموز 1952 وقائدها جمال عبد الناصر، سارعت القوى نفسها بعد رحيله إلى الإعلان صراحة: "لا نريد ناصر جديدًا في المنطقة".
مئات الكتب وآلاف المقالات، التي دبجت لصلب عبد الناصر على مذبح الافتراء، يكفي أن نذكر أنّ أحد قادة جماعة "الإخوان" اعترف بأنه هو مؤلف كتاب وُضع اسم "الإخوانية" زينب الغزالي عليه، وفيه من قصص التعذيب ما يفوق خيال مخرجي أفلام الإثارة الهوليودية.
ولأن التاريخ لا يصدق إلا نفسه، فقد رُد الاعتبار لعرابي ولمضامين ثورته وأهدافها الوطنية الكبرى، ولم يلتفت إلى آلاف الصفحات التي كُتبت في جرائد الاحتلال، وفي كتب أعوان المحتلين، وفي قصائد المنافقين، ورغم تجدد حملات الاجتراء على التاريخ الوطني بين الحين والآخر إلا أنّ عرابي بقي مع ثورته في ذروة عالية من ذرى القادة التاريخيين.
مع عبد الناصر تواجههم مشكلة أنه ما يزال حاضرًا في الذاكرة الوطنية والقومية، ارتبط اسمه بمرحلة الاستقلال الوطني، خاض بشجاعة وإقدام معركة التحرر بمعناه الأعمق وهو الانعتاق من التبعية للقوى الغربية المستعمرة والمضي قدمًا في مسار التنمية المستقلة.
أخطر ما يواجه أي جماعة وطنية أن يتعارك فرقاؤها حول تاريخها
هي معركة واحدة عبر التاريخ الحديث، هدفها واحد، والقوى المتصارعة على رقعتها تكاد تكون هي نفسها، تتعالى أصواتها في فترات هزيمة قوى الثورة لمصلحة القوى المضادة، ودائمًا ما كان الإنصاف يعود ليتصدّر الموقف مع كل انتصار للثورة.
إنّ أخطر ما يواجه أي جماعة وطنية أن يتعارك فرقاؤها حول تاريخها، ينتصر كل فريق إلى سرديته الخاصة للتاريخ العام للوطن، لكلٍ منهم روايته لما يرى أنه "صحيح التاريخ" فيتقطع بين تلك الفِرق تاريخ الجماعة الوطنية، وتتفرق دماء الحقيقة التاريخية بين قبائلها المتناحرة.
في هذا العالم الذي تتسارع متغيّراتُه، وتهتز ثوابتُه، وتتساقط قيمُه لن ينجو إلا تلك الشعوب التي تستند إلى جدار تاريخي متماسك، لتفلت من ألاعيب القوى المهيمنة التي تتبع "الطريقة الأكثر فعالية لتدمير شعب هي طمس فهم ذلك الشعب لتاريخه"، على حد تعبير جورج أورويل في رائعته "مزرعة الحيوانات".
التاريخ هو علم المستقبل، والأمم المتحضّرة تقرأ تاريخها انطلاقًا منه إلى الأفضل، يقرأون التاريخ كفاعل مستقبلي، وليس معول هدم، لا يتعاركون على الماضي، ولا يُصفون حسابات الحاضر في لوي عنق الوقائع التاريخية، لهم سردية موحّدة، الحاضر عندهم هو نقطة على مسارٍ تاريخيٍ طويل يتحرّك إلى الأمام، حيث التاريخ هو مرآة السيارة التي يُلقون عبرها نظرة إلى الخلف لكي يحسنوا القيادة إلى الأمام.
(خاص "عروبة 22")