عُقد لقاء هذه السنة في ظل بؤرتين جغرافيتين غاية في الاشتعال؛ الأولى الحرب الروسية الأوكرانية في قلب أوروبا التي انطلقت مطلع 2022، والثانية حرب المقاومة الفلسطينية ضد قوة الاحتلال الإسرائيلي المدمّرة والغاشمة المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي. إلا أنه، وإذا استثنينا التغطية الإعلامية العادية، فاللقاء لم يحظَ بالاهتمام الكافي من التحليل. خاصة وأنّ لقاء هذه السنة، يأتي بعد عام من إطلاق "الناتو" لوثيقة "المفهوم الاستراتيجي"؛ التي حاول من خلالها الحلف أن يجدد دوره العالمي بعد الغياب الأمريكي عنه زمن ترامب ومحاولة الاتحاد الأوروبي أن يلعب دورًا عالميًا بقيادة ألمانيا وفرنسا، ولكن جانبه الإخفاق خاصة مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
فعلى مدى سنة اليوبيل الماسي لـ"الناتو" انطلق الحلف - مع العودة الأمريكية له وتجديد الدور الأوروبي للكيان وانضمام دول أوروبية كالسويد وفنلندا لعضويته - يعمل على أن يستعيد الدور التاريخي الذي تأسس من أجله في أبريل/نيسان من سنة 1949. ليكون أداةً عسكرية تدافع عن المنظومة الرأسمالية الغربية ضد "المد الشيوعي" للاتحاد السوفيتي في أوروبا والعالم، وهو ما عُرف في الأدبيات بـ"مبدأ ترومان".
لقاء واشنطن ركّز على أولويتين هما: الشأن الأوكراني ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي
حددت وثيقة المفهوم الاستراتيجي، الصادرة العام الماضي، الدور المستقبلي لـ"الناتو" بأنه يتمحور حول "مواجهة التنافس الاستراتيجي المتزايد في العالم"، ويعكس هذا التحديد لدور "الناتو" تجديدًا لدوره الذي اضطلع به زمن الانقسام الأيديولوجي - الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الرأسمالي وبين الشرقي الاشتراكي والتي استدعت أن يؤسس الاتحاد السوفيتي لحلف وارسو سنة 1955 - إلى مواجهة التنافس الجيوسياسي الإمبريالي الجديد مع كل من الصين وروسيا.
وفي هذا المقام، يشير نص وثيقة المفهوم الاستراتيجي لـ"الناتو" في فقرته 13 بوضوح إلى التحدي الذي تمثّله الصين وروسيا لمصالح وأمن وقيم دول حلف الأطلسي وذلك من خلال الوجود المادي: الاقتصادي، والعسكري، والسياسي، في كثير من الدول والمناطق الحيوية في العالم بغرض "السيطرة - أفضل احتكار - على القطاعات التكنولوجية والصناعية والبنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد".
ويرى الحلف أنّ ما سبق يؤدي إلى "تدمير" القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي الراهن، ما يعني الدخول إلى سياق دولي جديد يقوم على أُسُس إمبريالية صريحة.
وبالرغم من أنّ وثيقة المفهوم الاستراتيجي قد أكدت على اهتمام الناتو بالمناطق ذات الأهمية الاستراتيجية مثل: الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، والساحل الأفريقي، والمحيطين الهادئ والهندي؛ وذلك من حيث "العمل على التصدي لأية تهديدات تتعرض لها المناطق المذكورة". إلا أنّ لقاء واشنطن قد ركّز على أولويتين هما؛ أولًا: الشأن الأوكراني، وثانيًا: منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
فيما يتعلق بالشأن الأوكراني؛ استفاض البيان الختامي في الكيفية التي سيدعم بها "الناتو" أوكرانيا من حيث: الدعم المالي المباشر، وتنسيق المساعدات المالية، وتقديم التدريب، وتعيين ممثل مدني رفيع المستوى لـ"الناتو" في كييف لتدعيم العلاقة المؤسسية بين أوكرانيا والحلف. إضافة إلى تعزيز دور "الناتو" في بناء قوة أوكرانية مرنة مع قدرات دفاع وردع موثوقة.
أما فيما يتعلق بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي؛ فلقد جدد الملتئمون ـــ حولهما ـــ دور الحلف "الردعي والدفاعي"؛ إذ أكدوا حسب البيان الختامي على أنّ "الناتو" قد "بات اليوم قادرًا على الربط بين قواته ومناطق جغرافية ومهام محددة، مما يتيح التركيز بشكل أفضل على عمليات الحلف وأنشطته واستثماراته. إن البنية القيادية المحدثة التي سيدفع بها القادة قدمًا في واشنطن ستحوّل المقر الذي كان مناسبًا في وقت السلم والعمليات خارج المنطقة إلى مقر جاهز لردع أي تهديد والدفاع عن أراضي الحلفاء".
أهمل لقاء "الناتو" القضية الفلسطينية ما يعني توفير الدعم التام لجيش الاحتلال الإسرائيلي
وفي هذا السياق، دعا "الناتو" من أسماهم "الشركاء" في "منطقة المحيطين الهندي والهادئ – أستراليا واليابان ونيوزيلندا وجمهورية كوريا – للانضمام إلى قمة "الناتو" على أعلى المستويات"، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية للقاء مشترك "لمناقشة" التهديدات الجارية وطبيعتها ونطاقها والتي وضحها في البيان الختامي كما يلي: "الربط المتزايد في مجال الأمن في المنطقة الأورو-أطلسية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك العلاقة العسكرية والاقتصادية المقلقة بشكل متزايد بين روسيا وجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية ودعم جمهورية الصين الشعبية للقاعدة الصناعية الدفاعية الروسية".
هكذا أهمل تمامًا لقاء "الناتو"، مطلع الشهر الجاري، في يوبيله الماسي الـ75، القضية الفلسطينية والحرب الدائرة منذ نحو 10 شهور، والمرة الوحيدة التي ذكر فيها أي أمر له علاقة بما يدور في المنطقة جاء في نهاية البيان الختامي تحت عنوان مكافحة الإرهاب والاستجابة للتحديات في الجوار الجنوبي لـ"الناتو" في مناطق: الشرق الوسط وشمال أفريقيا والساحل الأفريقي. أي أنّ الصمت كان من نصيب ما يجري من تدمير ممنهج للبشر والحجر في القطاع والضفة. ما يعني دون أدنى شك توفير الدعم التام لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
(خاص "عروبة 22")