بصمات

ما قبل الحداثة وما بعدها

منذ ما يزيد على العقدين من الزمن، انشغل الفكر الغربي بتقديم مساهمات حول ما بعد الحداثة، تتضمن نقدًا للحداثة التي عرفتها أوروبا مع تقدّم العلوم والفلسفة وخصوصًا تمجيد العقل وصعود القوميات التي عرفتها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الأمر الذي انتقل إلى كل أرجاء العالم.

ما قبل الحداثة وما بعدها

الواقع أنّ الأفكار والعلوم والتقنيات التي عرفها الغرب قد انتشرت في كل بقاع العالم. بالرغم من أنّ مظاهر الحداثة التي عمّت العالم، ليست سوى قشرة رقيقة في بعض المجتمعات تتجلى في استخدام تقنيات وشكليات دون أن تنفذ إلى الأُسُس العقائدية أو المجتمعية. والغرب الذي أعتقد بكونيته، لم يعد متمسّكًا بكونية أفكاره وإن اعتقد بأنه متقدّم.

ليس هنا المجال للتشكيك بالتقدّم الذي أحرزه الغرب، والذي يمكن أن نرجعه إلى عصر النهضة، بل إلى العصور الوسطى، فالدراسات التاريخية والفكرية الأحدث لا تأخذ بالنظريات التي تقطع بين الحداثة وما قبلها. من ذلك، الدراسات التي ترجع الدولة الحديثة إلى أصول وسيطة وكذلك الأمر بالنسبة للفلسفة التي لا تنكر أصولها اليونانية، التي عرفتها من خلال الترجمات العربية في وقت مبكر في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين.

مثّل العلم العربي أول ظهور للعلم بالمعنى العالمي

لا نريد في هذه المطالعة أن نعود إلى الجدال حول أثر الحضارة الإسلامية العربية في نهضة أوروبا، فبالرغم من التجاهل أو الإنكار فإنّ أثر الحضارة الإسلامية في العلوم والفكر والآداب أيضًا، أكبر من أن ينكر، وإن كانت أوروبا قد أنجزت حضارتها غير المسبوقة باتساعها وشمولها.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ألم تعرف الإنسانية حداثة سابقة للحداثة الأوروبية؟ لا شك بأنّ الإجابة تحتاج إلى نقاش عميق يتجاوز السرديات الشائعة والتي حكمت التفكير الإنساني خلال قرنين من الزمن.

سأكتفي هنا بإبراز رأيين للنقاش، الرأي الأول للباحث المرموق رشدي راشد الذي ركّز جهوده للكشف عن المخطوطات العربية في مجال الرياضيات، تاريخها ونصوصها وأثرها، وكشف عن علم المناظر والفلسفة عند الفارابي وسواه، والجبر والهندسة وأعّد موسوعة تاريخ العلوم العربية، وأحيا تراث ابن الهيثم والخوارزمي والكندي وعمر الخيام.

يرى رشدي راشد، أنه لم تكن هناك حداثة واحدة، وإنما أكثر من حداثة، إحداها الحداثة العربية الإسلامية والتي انتشرت فيها العلوم. وقد مثّل العلم العربي أول ظهور للعلم بالمعنى العالمي. بحيث اندمجت الثقافات العالمية في بوتقة العلم العربي وأصبح للعلم لغة هي اللغة العربية.

أما الرأي الآخر فهو لأبي الريحان البيروني (973-1048م) ويمكن اعتباره أكبر من يمثّل العلوم العربية لاشتغاله بالرياضيات والفلك والجغرافيا والطب والصيدلة. وقد انفرد في كتابه الذي يمكن أن نعتبره مؤلفًا في الانتروبولوجيا، وهو: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".

لم يكن البيروني عربيًا وقد عاش في ممالك وسط آسيا، ومع ذلك فإنه يقول في كتاب الصيدنة: "وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت إلى الأفئدة وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمّة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها.. فأنا في كل واحدة دخل ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية، وسيعرف مصداق قولي من تأمل كتاب علم قد نُقل إلى الفارسي كيف ذهب رونقه وكسف باله واسود وجهه وزال الانتفاع به، إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية".

العربية كانت لغة العلم العالمية التي انتقلت عبرها العلوم إلى أوروبا

أدرك البيروني، الذي لم تكن العربية لغته الأصلية، بأنّ اللغة العربية هي لغة العلم والفكر في زمنه. ولهذا فقد كتب كل مصنفاته باللغة العربية. ويعلّق اغناطيوس كراتشكوفسكي صاحب تاريخ الأدب الجغرافي العربي، بقوله: "وهكذا لم يمنع الشعور الإيراني البيروني عن تفضيل اللغة العربية على الفارسية، وهو وإن أبدى في ذلك بعض المبالغة إلا أنه بقي مخلصًا لهذا الرأي طول حياته".

وبناءً على الرأيين الذي ينتمي أحدهما إلى القرن الحادي عشر الميلادي والآخر إلى القرن الواحد والعشرين، فإنّ العربية كانت لغة العلم العالمية، والتي انتقلت عبرها العلوم إلى أوروبا، الأمر الذي يدفعنا، ليس إلى طرح مسألة التفاعل بين الحضارات، ولكن إلى البحث عن حداثات سابقة للحداثة الأوروبية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن