في ثمانينيات القرن الماضي ظهر جيل جديد في مصر من مخرجى السينما، لُقب بجيل "الواقعية الجديدة"، اهتم برصد تفاصيل الفرد العادي وهمومه الشخصية، بجانب الواقع الذي يعيش فيه، وبدون انحياز مُسبق لنموذج محدد يتم من خلاله تفسير الواقع وعلاقة الفرد به.
كان الدافع الأهم وراء ظهور هذا الجيل وبهذه الرؤية الجديدة، هو هزيمة 1967 التي أسّست علاقته بالسينما على نقد الواقع القديم الذي أدّى إلى تلك النكسة، وإعادة تشكيله من جديد، أي أنّ هذا الجيل جاء ليرد على الهزيمة، كلّ بطريقته عبر إزاحة الستار عن واقع وفرد جديدين.
وهو التحليل الذي بنى عليه الكاتب المصري علاء خالد كتابه "داود عبد السيد.. سينما الهموم الشخصية"، الصادر حديثًا عن دار المرايا، والذي يسلّط الضوء على واحد من أبرز مخرجي الثمانينيات الذين صنعوا أفرادهم وأبطالهم في غياب جدل اجتماعي أو روحي، لذا كان يعتريهم النقصان، أو بمعنى آخر أصبحوا معبّرين أكثر عن أزمة جدل غائب، عن ذاتية بلا آخر.
يرى علاء خالد أنّ المجتمع حينها لم يكن له أقطاب متعدّدة تُمكّن المخرج من أن يصوغ البطل من خلالها، فاخترع دواد عبد السيد والمخرجون الآخرون قطبًا آخر شبه ذاتي، يقع بين ذاته والجموع، تتمحور حوله القضايا الكلية للإنسان. أخذ هذا القطب شكل اكتشاف الوجود الممسوس بالميتافيزيقا عند داود عبد السيد، أو أحوال الإنسان العادية داخل الطبقات المتوسطة عند محمد خان، أو إبراز الجانب الفانتازي عند هذه الطبقات كما عند خيري بشارة، أو المعاناة المباشرة المرتبطة بالوضع الاجتماعي والسياسي لأبطاله كما عند عاطف الطيب.
في أفلام داود عبد السيد نجد أن الفرد ليس ممثلاً لطبقة، وممثلًا لها في آن. كون هذا الفرد ليس منفصلًا، ولا مندمجًا، يقف على برزخ فكري مُستقل يصوغ فيه أفكاره وأحلامه، له مرجع مستقل نسبيًا ومتقاطع في آن مع الآخرين، كأن الطبقة الاجتماعية تملك إمكانية تحرّر بداخلها.
يعتقد المؤلف أنّ هذا الحلم أحد سمات سينما جيل الثمانينيات، لأنها جاءت بعد ميراث وعي جمعي يساري، وأيضًا بعد هزيمة 67 الفاصلة، التي ضربت هذا الوعي الجمعي والفردي معًا، فقامت السينما على أنقاض هذا الإرث المُهشّم فحاول داود عبد السيد مع أبناء جيله من المخرجين، أن يعيدوا تكوين هذا الفرد، وهذه الجموع، وهذا الوعي الجمعي، مرة أخرى.
في أفلام داود عبد السيد أيضًا تجربة وجودية عميقة يعيشها أبطاله، تتعدى أحيانًا الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، وإن كانت تتماس معها كحدود تحتويها، الأمر نفسه في أفلام وأبطال عاطف الطيب أو خيري بشارة أو محمد خان الذين كانوا يعملون جميعًا تحت مظلة الطبقة المتوسطة، بالرغم من انتقادهم لها في أفلامهم ولكن كانت تحدوهم رغبة في الحفاظ عليها، كي لا تموت في تلك اللحظة الفارقة من تاريخها، والتي كانت تعاني فيها من التحلل والهجوم.
وبالعودة إلى الحوار الطويل الذي أجراه المؤلف مع داود عبد السيد على مدار عشرين عامًا، نستطيع أن نضع أيدينا على أثر هزيمة 67 في أفلام جيل "الواقعية الجديدة"، فالهزيمة لم تكن فقط حربية، وإنما هزيمة حضارية وهزيمة مشروع، وكان رد الفعل لهذه الصدمة هو التقوقع والعزلة، اللذان فرضهما النظام السياسي آنذاك.
يقول داود عبد السيد: "كنا نعشق عبد الناصر ويتملّكنا إحساس بأننا نبني تطورًا وطنيًا.. مشكلة عبد الناصر أنه عطّل نموّ المجتمع المدني والنقابات، وأنه لعب دور الأب".
حفرت الهزيمة إذًا جروحًا في نفسية هذا الجيل، كما أنها شاركت في تحوّلاته الحياتية وصياغة أفكاره، وكان طبيعيًا أن يقاوم داود عبد السيد مع غيره من مخرجي الثمانينيات الفكرة الأبوية الموروثة من نظام عبد الناصر، وأن يدافع عن فردانية أبطاله باختلاف طبقاتهم الاجتماعية، فهو لا يستطيع أن يلغي ذات الفرد من أجل الكل، لأنّ هذه الذات لن تتكرّر، فالبشر ليسوا نسخًا متشابهة.
طبقية داود عبد السيد التي ظهرت في أفلامه، وفق علاء خالد، مخلوطة بطاقة شعرية وبصورة حسّية مشبعة تجعل السينما، والطبقة الاجتماعية، حاضرة في مكان حلمي مُعلّق بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والأسطورة. ربما هو المكان الذي تطمح إليه سينماه وأيضًا المكان الجمالي الذي يمرّر عبره أخلاقه الخاصة وانتقاداته لطبقته المتوسطة.
يحضر الفرد في أفلام داود عبد السيّد بالنيابة عن قضية جماعية كبرى تعتبر من أساسيات الوجود، كالحرية أو العدالة أو الخوف، فلكي يتخلّص المخرج من العلاقة الجدلية بين الفرد وواقعه، والذي قد يُستقطب سياسيًا، أحال هذا الواقع إلى واقع جديد قريبًا من الحلم، تحكمه الصدفة والتجاوز والأمل، ومتحررًا من شروط الواقع الاجتماعي المباشر.
على النقيض، فإنّ الفرد في أفلام يوسف شاهين - كما يقول علاء خالد - يعبّر عن جماعة كبيرة، حتى وإن باح بأسرار شديدة الخصوصية، ولكن داخل بوح بطل شاهين السياسي هناك قضية كبرى هي التي تمنح هذا البوح بريقه وتخلّصه من أي إدانة/ رقابة جماعية تطاله. أما البوح عن داود عبد السيد عبارة عن مناجاة، تتلمّس نموذج إنسان أعلى، فتأخذ هيكل سيرة ذاتية موزّعة على أفلامه دون بطل محدّد يمثلها.
(خاص "عروبة 22")