بتعبير آخر، لماذا لم تواصل المنطقة صعودها الاقتصادي بعد القرن 13 الميلادي ولماذا لم يستطع العثمانيون في القرن 16 الميلادي مواصلة الازدهار وتوقفوا عن التطور وتحولوا إلى الرجل المريض في القرن 18 الميلادي؟
في عدة فترات كان الشرق الأوسط أكثر تقدمًا من الغرب نفسه
اشتغالنا على القضايا الاقتصادية، كان سببًا وراء البحث عن أجوبة أولية أو مفصلية على الأسئلة أعلاه، وقد وجدنا بعضًا منها في كتاب يحمل عنوان "لماذا أثرى الغرب دون الشرق"، وصدر منذ سنة ونيف، للمؤلف جارد روبن، وهو في الأصل رسالة دكتوراه في الاقتصاد التاريخي من جامعة ستانفورد، وقد ترجم الكتاب علي الحارس.
من الناحية التاريخية، لم يكن الشرق الأوسط مـتأخرًا دائمًا عن الغرب، بل بالعكس من ذلك، لأنه في عدة فترات كان فيها الشرق الأوسط أكثر تقدمًا من الغرب نفسه. ومن المؤشرات على التطور الاقتصادي، وجود المناطق الحضرية الآهلة بالسكان الذين تجاوزوا حدّ الكفاف الاقتصادي حيث كان الشرق الأوسط فيه العديد من المدن الحضرية التجارية، لكن مع الوقت وقع تراجع في عدد تلك المدن الكبيرة، وكانت حصة المناطق الحضرية من السكان في العالم الإسلامي في العام 800م أكبر بكثير من نظيراتها في أوروبا المسيحية.
إستطاع الحكم العربي بفضل الإسلام تشكيل شبكة واسعة من التبادلات بين شعوب متنوعة متباعدة
كان الحكم الإسلامي مخيّمًا على 14 مدينة من بين 22 مدينة في العالم وأشهرها بغداد العباسية. وفي 1300م ورغم الغزو المغولي، كانت المدن العربية تساوي عدد المدن المسيحية في أوروبا، لكن بحلول 1800م لم يبقَ إلا القاهرة وتونس أكبر المناطق الحضرية ضمن تلك المدن. هكذا انتقل مركز الجذب الحضري من الشرق الأوسط إلى مناطق غرب أوروبا كمدن إيطاليا وأمستردام ولندن.
هناك إجابات عديدة على الأسئلة التي افتتحنا بها المقالة، وأحد أشهر الإجابات هي أنّ الإسلام هو السبب في إعاقة التطوّر الاقتصادي للشرق الأوسط بين القرن 10 والقرن 14 الميلادي، على ذمة ما صدر عن بعض غلاة الاستشراق، ومنهم برنارد لويس، أحد أهم مروّجي هذا التفسير، حيث نسب إلى الإسلام طبيعة داخلية محافظة مستقلة تجعله يعيق التطور الاقتصادي. لكن مؤلف الكتاب جارد روبن يُقدّم أدلة على أنّ انتشار الإسلام في الشرق الأوسط ساهم في التطور التجاري حيث استطاع الحكم العربي الأموي والعباسي بفضل الإسلام تشكيل شبكة واسعة من التبادلات بين شعوب متنوعة متباعدة تبادلت بينها السلع والخدمات والأشخاص على أساس الثقة غير الشخصية التي توسعت بفضل مشاركة الإسلام. ووصل التطور الاقتصادي والعلمي مداه في القرن 10 الميلادي، لكن بعد ذلك بدأ التطور التجاري في التباطؤ.
لم يلعب العثمانيون، الذين استلموا زمام امبراطورية واسعة في 1500م رغم استيلائهم على الشرق الأوسط الذي كان يخضع لحكم المماليك وحربهم ضد إيران الصفوية، أيّ دور في مواصلة التطور الاقتصادي، حيث قاموا أولًا عند ظهور الطباعة في 1450م بحظرها في سنة 1485م ولم يسمحوا بها إلا بعد مرور قرنين من ذلك بضغوط خارجية. ولم يتم تجديد القانون التجاري في الإسلام حيث ظلّ تحريم الربا عائقًا لظهور المصارف والتأمينات. لكن في الغرب كان الأمر مختلفًا، جرى تبني الطباعة وجرى إدخال المصارف التي تجاوزت تحريم الربا. كانت المناطق البروتستانتية في البلاد المنخفضة هولندا وبلجيكا وإنجلترا أولى المناطق التي بدأت تعرف تطورًا اقتصاديًا منذ سنة 1600م.
ظلّ انتهاك حقوق الملكية ممارسةً معهودةً عند العثمانيين
والسؤال الذي يطرحه المؤلف هو لماذا استطاعت بلدان في غرب أوروبا تبنّي الطباعة وإنشاء الشركات التجارية والمصارف، بينما بقيت الإمبراطورية العثمانية تحظر الطباعة وتمنع إنشاء المصارف وظل الإقراض مستمرًا في إطار شبكات علاقات شخصية وتم منع السفتجة من أن تتحوّل إلى أداة للإقراض مثل الكمبيالات الأوروبية، وظلّت الشركات صغيرة وعائلية ومخاطر حلّها كبيرة بالنظر لقوانين الميراث التي لا تسمح باستمرار الشركات بعد وفاة أحد الشركاء، وظلّ انتهاك حقوق الملكية ممارسةً معهودةً عند العثمانيين، وكانت المحاكم العثمانية متحيّزة ضد الفقراء والمسيحيين لصالح النخب النافذة، وتحوّلت الأوقاف إلى طريقة لحماية الممتلكات من المصادرة الحكومية، وبقيت الأوقاف دون قانون يجعلها تستمرّ مثل الصناديق الوقفية "الترست" البريطانية رغم أنّ الترست تم نقل نموذجه من الوقف الإسلامي في القرن 13 الميلادي في القدس.
يُركّز الجواب الذي يقدّمه المؤلف على دور النخب الدينية والاقتصادية في دعم التطور الاقتصادي. في الشرق الأوسط عطّلت النخب الدينية التطوّر من خلال عدم تجديد القانون التجاري ودعم حظر الطباعة، بينما في الغرب ظهرت النخب الاقتصادية في البلدان البروتستانتية ودفعت في اتجاه سياسات وقرارات تخدم التطور التجاري.
كان دور النخب مختلفًا حسب السياقات السياسية، وكانت العلاقة بين الحكام والنخب الدينية والاقتصادية بمثابة الإطار العام النظري لهذا الكتاب الذي يعتمد نظرية متينة وأدلة متنوعة كبيرة.
(خاص "عروبة 22")