قاد هذا السعي بعض الدول العربية إلى محاولة صياغة أنموذج اقتصادي جديد، قائم على تًمثُل نوع آخر من الثروات يرتكز على استغلالٍ وتوظيفٍ أمْثل للموقع الجغرافي. فمعظم الدول العربية تٌطل على أهم الطُّرق التجارية البحرية، كما أنها تُشرف على أهم المضائق والقنوات البحرية.
دفعت هذه الأفضلية الجغرافية بعدد من دول المنطقة العربية إلى التفكير في صياغة أنموذج اقتصادي يستند إلى هذه المقومات الجغرافية عبر الاستثمار في تقوية البنية التحتية المينائية وتطويرها، وتعزيز إمكانياتها على مستوى تقديم الخدمات اللوجيستيكة جودةً وتكلفةً، وهو التوجّه الذي سارت عليه دول كالإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية قبل أن تلتحق بهم بقية الدول العربية التي تحاول تقفي أثر النجاح.
وفي هذا السياق، نورد أنموذج الاستراتيجية المينائية المغربية التي كان لها دور صريح في تسريع تحوّل البنية الاقتصادية لهذا البلد، من بنية ترتهن لثلاثة قطاعات أساسية هي الفلاحة والخدمات والصناعات الاستخراجية، إلى بنية منفتحة على قطاعات صناعية متطورة كصناعة السيارات والطائرات وتكنولوجيا الطاقات المتجددة؛ هذا التحوّل الذي ارتأت المملكة إحداثه عبر البوابة المينائية كان له أثر كبير في الارتقاء بالتصنيع في ظرف وجيز.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص ارتقت بـ"المركب المينائي" المغربي إلى مصافي الموانئ الدولية الكبرى
يُعد المغرب من البلدان الشبه معزولة جغرافيًا بالنظر الى إحاطة البحر به من جهتين شمالًا وغربًا، وحدود برية مغلقة على امتداد الشرق ومنفذ بري وحيد باتجاه الجنوب، وهو الأمر الذي فرض منذ عقود خلت التفكير في حلول وبدائل فعالة ومستدامة من أجل تجاوز هذا الوضع المعقّد الذي فرضته الجغرافيا والخلافات السياسية، حيث طرحت عدة بدائل وحلول بعضها مرتبط بتطوير القطاع المينائي.
بُعيد استقلال المغرب، عملت الحكومة على تطوير أنظمة تدبير واستغلال الموانئ عبر بوابة التأميم والمَغْرَبة، وهو ما كان له نتائج سلبية على المدى القصير والمتوسط نتيجة تسريح عدد كبير من الأطر الأجنبية وفقدان رؤوس أموال معتبرة، وما يعنيه ذلك من فقدان خبرات ومعارف تقنية وإمكانيات مادية كان من شأنها تطوير هذا القطاع الحيوي بالنسبة للاقتصاد المغربي.
لكن التدهور الذي عرفته الخدمات المينائية بُعيد الاستقلال كانت له تبعات سلبية على الاقتصاد الذي شهد أزمة خانقة بداية الثمانينيات دفعت المغرب إلى طلب المساعدة من بعض المؤسسات الدولية التي ربطت تقديمها بسنِّ عددٍ من الإصلاحات الاقتصادية بُغية تخفيف تدخل الدولة في المشهد الاقتصادي وترسيخ المقاربة الليبيرالية القائمة على التحرير والخصصة، مقابل حصر تدخلها في التخطيط والتنظيم والمراقبة. هذه التوجيهات كان لها أثر مباشر على القطاع المينائي الذي دخل في مرحلة إعادة هيكلة وتحرير تدريجي ابتداءً من سنة 1984 انتهت إلى إقرار نظام جديد لتدبير واستغلال الموانئ بالمغرب ابتداءً من سنة 2002.
حجم المنافع الاقتصادية التي قد يجلبها التقارب والتكامل يؤدي إلى تذويب الخلافات السياسية
في مستهل الألفية الثالثة، قرّر المغرب دخول غمار تجربة اقتصادية جديدة عبر تأسيس مركب مينائي يتمتع بالاستقلالية في التدبير ويتم استغلاله من قبل مستثمرين خواص، ذي نظام ضريبي محفز ومرِن مَكّنَ من استقطاب عدد كبير من المستثمرين الأجانب استقروا في المناطق الحرّة. هذه المقاربة الجديدة القائمة على الشراكة في التدبير والاستغلال بين القطاعين العام والخاص انعكست إيجابًا على مردودية هذا المركب وارتقت به إلى مصافي الموانئ الدولية الكبرى، وحفزت السلطات الوصية على استنساخ التجربة نفسها عبر الشروع في إنشاء ميناء الناضور شرق المتوسط وميناء الداخلة الأطلسي؛ وقد واكبت هذه التوجهات إصلاحات قانونية شملت إصدار قانون 15.02 الذي حرّر الخدمات المينائية بشكل كلّي وأسهم في تجويدها، كما عزّز قدرة هذا القطاع على استقطاب الاستثمارات الأجنبية والتأسيس لصناعات جلّها موجّه نحو التصدير.
بالنتيجة، لا يمكن اليوم الحديث عن الاقتصاد المغربي دون التوقف مليًا عند تجربته المينائية التي غيّرت في ظرف عقدين من الزمن من مرتكزاته وروحه، ومكّنته من صياغة هوية اقتصادية جديدة، تلمّسنا بعضًا من ملامحها خلال عرض مضامين الميثاق الجديد للاستثمار سنة 2022. هذه التجربة من شأنها أن تكون تجربة ملهمة لعدد من الدول العربية التي تتقاسم الخصائص الاقتصادية والجغرافية نفسها مع المملكة، وهو الأمر الذي قد يكون له أثر إيجابي في تعزيز التكامل الاقتصادي وتسريعه، كما قد يُسهم في تذويب بعض الخلافات السياسية أمام حجم المنافع الاقتصادية التي قد يجلبها التقارب والتكامل.
(خاص "عروبة 22")