بصمات

النُخب العربية ومسارات الفشل السياسي

كثيرًا ما تُحمَّل اتفاقيات "سايس بيكو" الشهيرة مسؤولية تمزيق الوطن العربي، رغم أنها كانت محدودة النطاق ولم تطبّق في كامل تفصيلاتها. والحقيقة أنّ النُخب السياسية العربية فشلت فشلًا ذريعًا في الحفاظ على تركة الهندسة الاستعمارية الأوروبية، رغم محاربتها العلنية لواقع التفكيك والتجزئة ورفعها لشعار الوحدة والاندماج القومي. 

النُخب العربية ومسارات الفشل السياسي

ما نلمسه حاليًا في العراق وسوريا ولبيبا والسودان واليمن.. دليل ملموس على صحة هذه الملاحظة.

لقد تشكّل العراق الحديث عام ١٩٢١ من خلال توحيد مناطق ثلاث كبرى كانت تنتمي إلى مجالات عثمانية مختلفة: البصرة التي هي بوابة الخليج العربي، وبغداد محور الوسط السني العربي، والموصل التي هي أقرب لبلاد الشام. لم يكن هذا التوحيد اعتباطيًا، بل استند إلى حقائق تاريخية وجغرافية واقتصادية مكينة. الا أنّ الحكومات المتتالية التي حكمت العراق فرطت في هذا الإرث الاستعماري، وها هي البلاد اليوم على حافة التفكّك والتجزئة.

قام نموذج الحكم في جل الدول العربية على المركزية المتعسّفة والتسلّطية السياسية وعسكرة الإدارة العمومية

الملاحظة نفسها تصدق على الدولة السورية الحديثة التي تأسست في نهاية ١٩٢٤ بدمج إقليمَيّ دمشق وحلب، بعد اختبار سياسة الدويلات الطائفية، ولا نحتاج للتذكير بواقع الحالة السورية اليوم.

قامت الدولة الليبية الموحّدة عام ١٩٥١ بتوحيد مناطق ثلاث متمايزة، هي طرابلس وبنغازي وفزان، وقد ألغى نظام القذافي الصيغة الاتحادية، ولم تصمد وحدة الدولة بعد ثورة ٢٠١١.

تأسست الدولة السودانية الحديثة خلال السيطرة المصرية - الإنجليزية بضم الجنوب وإقليم دارفور إلى المناطق النيلية الشمالية ومنطقة البحر الأحمر، ثم تفككت الدولة الموحّدة تدريجيًا منذ انفصال الجنوب ٢٠١١ إلى التقسيم الحالي الناتج عن الحرب الأهلية المشتعلة منذ سنتين.

لم تصمد وحدة اليمن المعلنة عام ١٩٩٠، وها هي البلاد تعود لعصر السلطنات والدويلات الطائفية والقبلية.

في كل هذه الحالات، لا معنى لتحميل الاستعمار المسؤولية، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أنّ النخب الوطنية تتحمّل وزر انهيار الدولة الوطنية في السياقات المذكورة آنفًا.

لقد قام نموذج الحكم المعتمد في جل الدول العربية على مرتكزات ثلاث هي: المركزية المتعسّفة، التي لا تقيم شأنًا للخصوصيات الإقليمية وللهويات السكانية، التسلّطية السياسية، التي لا تسمح بأي هامش للحريات العامة، وعسكرة الإدارة العمومية، منعًا لأي استقلالية ولو نسبية للكيانات والقوى المحلية.

وهكذا لم تنجح الجمهوريات المستقلة في الغالب في تشكيل هوية وطنية تتناسب مع واقعها القانوني والتاريخي، باستثناء حالات ثلاث في شمال أفريقيا لها محددات ظرفية معروفة: مصر والمغرب وتونس.

تبيّن الدراسات التاريخية التي تناولت نشأة الدولة الوطنية في أوروبا أنّ مسار هذه النشأة مرتبط عضويًا بطبيعة الكيان السياسي القومي الذي قاد عملية البناء الوطني من خلال استراتيجيات التوحيد والإدماج والتنميط التنسيقي، ولعبت السياسات اللغوية والتربوية والإدارية دورًا أساسيًا في هذا المسار.

الدولة الموروثة عن الهندسة الاستعمارية لم تسعَ لبناء هوية وطنية مندمجة

ما حدث في العالم العربي يختلف نوعيًا عن هذا السياق، لكون الدولة الموروثة عن الهندسة الاستعمارية اعتبرت نفسها في الغالب مؤقتة وغير شرعية، ولم تسعَ لبناء هوية وطنية مندمجة في الوقت الذي فشلت في تحقيق طوبى الاندماج القومي ووحدة الأمّة الكبرى.

قد يقول قائل إنّ مسار وحدة الكيانات الوطنية وبناء الدولة المركزية سبق تاريخيًا الحل الديمقراطي التوافقي في أوروبا، بل إنّ الفيلسوف الألماني هيغل يرى أنّ المستبد القوي هو الذي يؤسّس الدول وليس الحاكم الديمقراطي السلمي، إلا أنّ هيغل نفسه يبيّن أنّ التأسيس المركزي للدول لا يتم دون بناء عقلاني مؤسّسي صارم وفق منطق الحداثة القائم على الإرادة الحرّة والوسائط المجتمعية الفاعلة، بما يفسّر سهولة الانتقال إلى النُظُم الليبرالية الحرة.

هذه الثغرة العقلانية المؤسّسية هي مصدر فشل النخب العربية في البناء السياسي الناجح والمستقر، ولا جدوى في تحميل الاستعمار مسؤولية هذا الفشل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن