لسنا نتكلَّم بالعموم بقدر ما نحاكي السلوك اليومي للفئات المتحكِّمة بالواقع، تلك القادرة على تقرير مصير المجتمع والانتقال به من حالٍ إلى حال، كالانتقال من حال السِّلْمِ إلى حال الحرب أو العكس.
هنا نعاين مفهوم الشعور بفائض القوة الذي يبدأ من لحظةٍ مفصلية في العيش تستند أولًا إلى لغةٍ لا يتحدَّثُ فيها إلا هذه الفئة الشاعرة بالقوة. لغةٌ كل مصطلحاتها غير قابلة للتحقُّق، إلا على حساب الإنسان الراهن، هذا الذي يعيش كل يوم بيومه، كي يصنعَ المستقبل بحسب تخطيطه وبنائه المنطقي لواقع وجوده الكياني في دولةٍ ما.
لا يمكن لجماعة أن تحتل أرضًا أو مجتمعًا ثم تتحدث عن قيم ومواثيق دولية
لغةُ القوة هذه قائمةٌ على التهديد والوعيد بإفناء الكون في سبيل الفكرة أو العقيدة المفترضة، والتي غالبًا ما تكون دينيَّة، فيحدثُ أن ينتظم وجود المؤمنين بهذه الفكرة على رأي واحد. والرأيُ في هذه الحالة يصبح تجاوزًا لإمكان اتخاذ الفرد أي موقفٍ مغايرٍ، لأنه سيصبح معاديًا لجماعته، وهذا ما لا يتحمَّله الإنسانُ بطبيعته من منطلق الشعور بالانتماء الهُووي العفوي إلى أهله وناسه وأقاربه ومحيطه. من هنا يصبح الشعور بالقوة في الواقع أكبر من القوة الفعلية لهذه الفئة الفاعلة النشطة. شعورٌ لا يستوطنُ إلا الخطابات التذكيرية بالحقوق المهدورة على مرِّ التاريخ، وكذلك يسيطرُ على تفكير الجماعة كلِّها، فيجعلها مهجوسةً على الدوام بالتسلّح وامتلاك الجيوش، وبافتعال الحروب والتدمير، وممارسة القتل والجريمة، والاستهانة بالحياة والعبث بالاستقرار في سبيل إثبات شرعيةٍ مفترضة بالوجود لهذا التصور التاريخي أو الفكرة العقدة التي استعصت على التطبيق تاريخيًّا.
إنَّ ما قامت به جماعات اليهود في العالم منذ نهايات القرن التاسع عشر، مثلًا، هو الحديث عن تجميع القوة واستعادة أرض مسلوبة، وطلبت دعمًا من القوى العالمية الكبرى، واحتلت فلسطين، فرضت واقعًا من الهيمنة والشعور بالقوة والتفوّق، ثم بدأت تمارسُ تصوّراتها التاريخية القاتلة للعيش مكان البشر الموجودين في مكانٍ ما. وهي تمارس اليوم شعارات السياسة المعاصرة في الكلام عن النظم الديمقراطية والحريات،... إلخ. وليست ممارسة الشعور بالقوة أمرًا بسيطًا، بل هي تتطلَّبُ ذكاءً وفلسفة واشتراكًا فعليًّا في صناعة التكنولوجيا والابتكارات العلمية الحديثة، ودمج كل هذا السلوك بالاعتقاد الجاثم في الذهن، بأن ما يجري هو تحقُّقٌ لنبوءته في العيش.
وهنا نرى مفهوم القتال الدائم يدخل في التصور الكلي للحياة، إذ تبتني هذه الجماعات منظومة فكرية قوامها أن الآخر عدوٌّ لا بد من إزالته لأنه يعيق التحقق التاريخي للفكرة. وبذلك تربط كل علاقتها بالعلم الراهن في أيديولوجيا الحضور التاريخي، وتشرعن هذا الحضور بالكلام الدائم عن "الحق التاريخي". وبهذا المعنى يأتي تلازم مفهومي الشعور بفائض القوة مع الحق التاريخي في استحضار الجماعات المارقة في الواقع. ذلك أنّ كلا المفهومين لا يمكن إلا أن يظهرَ إلى ساحة الفعل بأثرٍ تدميري خارج نطاق العيش الكريم. فلا يمكن لعناصر من خارج الحدث أن تدخله إلا احتلالًا واقتحامًا وبالتالي إلغاءً وإفناءً، إذ يعبثُ هؤلاء بكل ما هو قائم في سبيل إحلال ما لم يقم إلى الآن.
كم صعبٌ أن يستسيغ العقل البشري إمكان تناغم الكذب مع الهيمنة
لذا نقول إنّ القوة الحقيقية هي الحضور الإنساني التفاعلي الذي يستأثِمُ الكذب والنفاق والتدمير والإلغاء، وبذلك تكون القوة في بناء الوضعية السليمة للوجود السياسي بين الناس. فلا يمكن لجماعة أن تحتل أرضًا أو مجتمعًا ثم تتحدث عن قيم ومواثيق دولية، كذلك لا يمكن للمجتمع الدولي أن يوافق هذه الجماعة على حضورها المارق في التاريخ، وإلا يصبح العالم كله عرضةً للانفجار القيمي، والانفلات القصدي من السمة "الإنسانية" في سُكنى العالم.
كم صعبٌ أن ترى مشهد الكونغرس الأميركي يصفِّق لنتنياهو! أو رؤساء دول غربية متقدّمة تدعم حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها! أو أن يستسيغ العقل البشري الراهن إمكان تناغم الكذب مع الهيمنة في فرض واقع لا يمكن الخروج منه.
إن ربطَ الحق بالقوة دلالةٌ على الكذب، أي على انتفاء الحق، لذا إنّ التمسك بادعاء الوجود التاريخي لا يبرهن الحقَّ في الوجود الحقيقي، خصوصًا إذا لم يتظهَّر هذا الادعاء إلا بقوة السلاح وبالخطاب الكاذب، هذا الفعل الذي لا يُنتج إلا الحضور التدميري للكائن الحاقد على حساب الحضور التعميري للكائن المسالم.
(خاص "عروبة 22")