ثقافة

تسليع الثّقافة الشّعبيّة

أسـوأُ ما يمـكـن أن ينـتظـر ثـقـافـةً شعـبـيّـة تـسـليـعُـهـا والتّـصـرُّفُ معـهـا بـمـا هي مـادّةٌ قابلـة للعـرض في سوق التّـداوُل كمـثـل سائـر المعـروضات التي تـنـتـقـل بالبيـع والشّـراء. لا نُـنْـكِـر على هذه الثّـقـافـة تـداوُلـيَّـتـهـا في البيـئـات الاجتمـاعيّـة ومـن لـدن شـرائـح اجتـماعيّـة مـن النّـاس؛ فذلك مـن ألـفـبـاء كـلِّ مـنتـوجٍ ثـقـافـيّ يـبـدعـه مـبـدِعٌ ويـتـلقّـاه جمهـور. بـل ذلك ما يكـون في خلـفيّـة غـايـات المنـتِـج مـن منـتـوجـه لحـظـةَ صُـنْـعـه (حيث ما أحـدٌ ينـتـجُ أثـرًا ثـقـافـيًّا لنـفـسـه).

تسليع الثّقافة الشّعبيّة

وإلى هـذا كـلِّـه، لا تـتـحـقّـق اجـتـماعيّـةُ الأثـر الثّـقـافـيّ إلا من طـريـق التّـداوُل الاجـتـماعـيّ لـه: هـذا الذي يـنـتـقـل بـه من فِـعْـلٍ فـرديّ و، بالتّـالي، مـن شعـورٍ فـرديّ إلى ثـقـافـة الجمهـور الجـمـاعـيّ الذي تصير إليـه بعد إذْ كـانت عمـلَ أفـرادٍ مبـدعيـن.

ليس إلى هـذا المعنـى من التّـداوليّـة نقـصِـد؛ لأنّـه معـنًـى متـقـرِّرٌ بـقـوّة أحـكـام الثّـقـافة التي ينْـزع منـتـوجُـها إلى الخـروج مـن حيّـز إنـتـاجـه إلى حيّـز التّـلـقّـي والتّـداول على وجْـهٍ مـن الضّرورة. نـعـنـي بالتّسـليـع نـمـطـًا آخـر من توزيـع المنـتـوج الثّـقـافـيّ الشّـعـبيّ مـبـنـاهُ على الرّبـح المـاديّ المُتأتَّـى منه.

يجد مبدعو الثّقافة الشّعبيّة أنفسَهم منفصلين عمّا أنتجوه بتدخُّلٍ وسيطٍ يسطو عليه سطوًا

لا أحـد مـن أطـراف العـلاقـة الثّـقـافـيّـة يكـون شريكًا في عـمـليّـة التّسليـع هـذه: لا منـتـجو هذه الثّـقـافـة ولا مستهـلـكوهـا - أو مُـتَـلَـقُّـوهـا - مـن الجـمهـور، وإنّـما يـتـنـزّل طـرفٌ ثـالـث من خارج هـذه العـلاقـة فـي مـوقـع الاسـتـحـواذ على ذلك المنـتـوج ليـقيـم عـلاقـة متـوسَّـطـة بين الإنتـاج والاستـهـلاك، هي عـلاقـة الوساطـة؛ هذه التي يعـتـاش من ريْـعـهـا وقـد يحـتـكـرها لنـفـسـه. وسـواء كـان الوسيـط - التّاجـر فردًا أو مؤسَّـسـةً أو دولـةً أو قطـاعًا خـاصًّا فإنّ مـبـدأ الرّبـحيّـة هـو ما يـؤسّـس وساطـتَـه ويـبـرِّرُهـا (له على الأقلّ).

في هـذه المتاجـرة بالثّـقـافـة الشّعـبـيّـة، المتـحـوِّلـة إلى سِـلـع ومعـروضـات، تتـجـسّـد عـملـيّـتان مـن العـدوان الاجـتـمـاعـيّ على منـتـوج ثـقـافـيّ مـعـبِّـرٍ عـن ذاتـيّـةٍ فـرديّـة وذاتـيّـةٍ اجتماعيّـة وعـن حساسيّـةٍ جـمـاليّـة بـعيـنـها:

أولاهُـمـا تـتمـثّـل في السّـطـو على عـمـل الآخـريـن وعلى الحـقّ الجـمـاعيّ والمـجـتـمـعـيّ في ذلك الأَثـر. كـلّ وسـاطـةٍ بيـن المنـتِـج/المنـتـوج والجمـهـور تـتّـخـذ شـكـل تسـويـقٍ، تجـارةٍ تـكـون - بـمـعـنًـى مّـا - اسـتـحـواذًا على عـمـل الآخـريـن يـتـوسّـل لـنفـسـه قـوّة بـهـا يقـوم أمـرُه: المال. كلّ شيء في المنـظـور الميـركـنـتيـلـيّ إلى الأشيـاء قـابـلٌ لأن يصـيـر مـوضوعَ اتِّـجـارٍ يدرّ أربـاحًا، لذلك يجـب تسـليـعـه. وتسـليـعـه ذاك انـتـزاعٌ لـه ومصادَرةٌ مـن مـنـتِـجِـه وسيـطـرةٌ عليـه تـنـتـهـي إلى وضْـع مسـتهـلِـكِـه تحـت شـروط الوسيـط الماديّـة التي يفـرضـها. هكـذا يجـد مبـدعـو الثّـقـافـة الشّعـبـيّـة أنـفـسَـهـم مـنـفـصـليـن، فجـأةً، عـمّـا هُـم أنـتـجـوه بـتـدخُّـلٍ وسيــطٍ، مـن خـارجٍ، هـو مَـن يحـتـكـر لنـفـسـه توزيـع منـتـوجـهـم؛ أي يسـطـو عليـه سطـوًا، الأمر الذي يتولّـد منه أن يجد منتجو تلك الثّـقـافة الشّـعبـيّـة أنـفسَـهـم في حـالة اسـتـلاب.

ليس من أيلولةٍ لعمليّة تسليع الثّقافة الشّعبيّة سوى إلى مصادَرة الجوهر الثّقافيّ فيها

وثانيـهـمـا أنّ الوساطـة إذْ تسطـو على المنتـوج، فـتـحـوِّلـه إلى سلـعـة قـابـلة للعـرض والتّـسـويـق، تـقـوم بإحـداث تحـويـلٍ كـامـلٍ في مضمـونـه كـمـنـتـوجٍ وفي القيـمـة التي إليـها يـرمُـز؛ هكـذا تحـوِّلـه مـن عـمـلٍ إنسـانـيّ ذي قيـمـةٍ ثـقـافـيّـة وجـمـاليّـة - أي يُـقَـدَّر بـمـقاديـر ومـقاييـس جمـاليّـة صـرف (وبالجَـهْـد المبـذول في إنـجـازه) - إلى سـلـعـة ذات قيـمـةٍ مـاديّـة ربـحـيّـة، أي معـيارهـا الذي تُـقـاسُ بـه مـا يـتـولّـد مـن تسـويـقـها مـن أربـاح!

وعليـه، ليس مـن أيـلـولـةٍ لعمـليّـة تـسـليـع الثّـقـافة الشّعـبـيّـة سـوى إلى إفـقـار مضمـونـها الثّـقـافـيّ، بل إلى مصادَرة الجـوهـر الثّـقـافـيّ فيـهـا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن