تقدير موقف

أولوية الإصلاح "من الداخل"

لا جدال في أنّ العالم العربي شهد عديد الإصلاحات منذ منتصف القرن التاسع عشر وإلى اليوم في مختلف المجالات سياسيًا وثقافيًا إلى حدّ أضحت فيه كلمة "الإصلاح" مصطلحًا ممجوجًا قد يُثير الحفيظة بحكم أنّه قد تحوّل في أحيان كثيرة إلى "استصلاح" أو "إصلاح للإصلاح". يكفي في هذا الصدد التذكير بـ"التنظيمات" التي اضطرت إليها الخلافة العثمانية بضغط من القناصل الأوروبيين (خط كلخانة سنة 1839 وخط همايوني سنة 1856)، فضلًا عن استمرار الدولة الوطنية على هذا النهج مثلما تكشفه مختلف المناويل التربوية والتنموية المعتمدة مشرقًا ومغربًا.

أولوية الإصلاح

وبقدر ما يوجد إجماع قاطع على النتائج المحدودة التي أفضت إليها مختلف التجارب الإصلاحية، فإنّ الانتكاسات المتراكمة التي مرّت بها المنطقة العربية وأضحت تهدّد وجودها التاريخي لا تنحصر أسبابها في محدودية الجهد النظري لمشاريع الإصلاح فقط، وإنّما كذلك في ضعف الرؤية التاريخية لمختلف الفاعلين الاجتماعيين الذين كان من المفترض أن يسهموا بالدعم الإسنادي "اللوجستي" لتلك المحاولات الإصلاحية عند الانتقال من طور النظر إلى طور العمل. وهذا يُحيل على مدى جدّية الايديولوجيا السياسية السائدة في مستوى مدى رغبتها في التغيير الحضاري الإيجابي الذي لا يمكن أن يستثني مجالًا دون آخر بما في ذلك عقلنة المجال السياسي وتحديثه.

مباشرة الإصلاح من الداخل أولوية مطلقة بالعالم العربي تعني مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية

لا يمكن في هذا الإطار التغافل عن دور العامل الاقتصادي والمالي لأهميته في ما يخصّ وجود قوى اقتصادية متشبّعة بالرؤية الإصلاحية وحاملة لهمومها وآمالها بما أنّه لا يمكن لأهل الفكر أو حتّى لرجال السياسة إنجاز تحوّلات كبرى دون وجود فعالية حضارية على صعيد الواقع لتأكيد الانسجام بين الشعارات والمبادئ المرفوعة وإفرازات الواقع التاريخي. ويبدو أنّ غياب أو ضعف القوى الاقتصادية الحاملة لمضامين الإصلاح والتغيير الجذري يظلّ معضلة كبرى بالعالم العربي لم تتم دراستها وتسليط الضوء عليها كما تقتضي شروط الإصلاح "الجذري".

لعلّه لهذا السبب تعدّ عملية مباشرة الإصلاح من الداخل أولوية مطلقة بالعالم العربي تعني مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية. ومن أشراطها الانطلاق من المجال التداولي العربي الإسلامي بدل مراكمة تجارب استنساخ نماذج "مستوردة" هجينة لم تفض إلا إلى نتائج عكسية مثلما تشهد بذلك عديد المؤشّرات الوطنية والدولية. وإذا كان لا بدّ من انفتاح على الثقافات الأخرى، فإنّ ذلك يمكن أن يتمّ ضمن عملية مثاقفة خلاقة مثلما أثبتته مختلف التجارب الحضارية المزدهرة قديمًا وحديثًا. ولنا في التجربة النهضوية اليابانية حقلًا دراسيًا خصبًا يمكن استلهامه في صياغة السياسات الإصلاحية العربية.

لا ينفصل في هذا السياق الإصلاح السياسي الداخلي وما يعنيه من إعادة هيكلة وترتيب للسياسات العربية في إدارة الأزمات المتلاحقة عن الإصلاح الثقافي واحترام خصوصية المجال التداولي العربي الإسلامي. إذ هما وجهان لحقيقة واحدة. فما أفرزته الديمقراطية "الشكلانية" بالبلدان العربية التي شهدت تجارب انتقال ديمقراطي يُعدّ دليلًا قاطعًا على أنّ مخاطر الديمقراطية "المستوردة" سواء على ظهر الدبابات، أو عبر القوة الناعمة لا تقلّ خطورة عن مخاطر الاستبداد وتكلّس الفكر بحكم أنّها شكّلت آلية من آليات التدمير الذاتي التي تنتهجها مراكز صنع القرار الدولي بالمنطقة العربية لتأبيد حالة التبعية والتخلّف.

لوضع "إيديولوجيا برامج" وهو ما يعني تعزيز القدرات وتقنين التعامل مع الغرب على أساس المصالح المتبادلة

يمكن أن يُفضي الإصلاح من الداخل إلى نتائج إيجابية على الأمدين القريب والبعيد في صورة توفّر شروط مباشرته وتنفيذه التي أشرنا إليها ضمنيًا في ما تقدّم من هذا المقال. فعلى المدى القريب قد يساعد الإصلاح الداخلي على حشد الطاقات وتوحيدها انطلاقًا من خلق "كتلة تاريخية" مؤثّرة تسهم في عملية التصحيح الذاتي، فيتمّ الفرز التاريخي الذي طال انتظاره بين القوى الإصلاحية الجادّة فعلًا في عملية التغيير الحضاري الإيجابي وبقية التشكيلات الوظيفية أسيرة المصالح الفئوية التي تتقاطع ضمنيًا مع القوى الدولية المعادية للحقّ العربي في المغايرة والتقدّم وإبداع نموذج حضاري بديل.

ولا شكّ أنّ ذلك من شأنه أن يساعد - على المدى البعيد - في ترسيخ الوعي التاريخي الذي يتجاوز الثنائيات الزائفة التي تُكبّل العقل العربي وتلهيه عن معالجة قضاياه الحقيقية، فينصّب الاهتمام على وضع "إيديولوجيا برامج" بدل الإيديولوجيا الهوياتية السائدة، وهو ما يعني تعزيز القدرات وتقنين التعامل مع الغرب على أساس المصالح المتبادلة التي تضبطها مراكز التفكير الاستراتيجي والخبراء المختصّون بدل الارتجالية والرعونة المستفحلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن