لكن واقع الأمر، يؤكد أنّ الآلة الذكية لا يمكنها تجاوز نظامها "الخوارزمي"، ولا تعمل إلا وفق التعريفات والتصنيفات البشرية لها، والقواعد والقوانين الأساسية التي تحدد لها أساليب التفكير والتحليل والاستنباط والاختيار... وبذا، فالآلة الذكية ستظل مرهونة بأنظمة تمثيل المعرفة. ومن ثم فإنّ معضلتها الرئيسية في هذا الصدد، هي صعوبة تعريف اللاوعي الإنساني وكيف تنشأ فيه المعرفة الأساسية المطلوبة، لتتمثل في خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
إنّ المسألة برمتها هي بناء خوارزميات متكاملة للذكاء الاصطناعي حتى يعمل وفقها بنجاح، ويتمكن من أداء مهامه في مختلف المجالات الفنية والطبية والإدارية والتجارية والاقتصادية بل والاجتماعية والسياسية والثقافية. وذلك اعتمادًا على معالجته للبيانات والمعلومات على نطاق واسع، وتشخيص المشكلات، وتقييمها، وتقديم الإجابات والحلول المثلى لها.
ستكون هناك مهن ومهام كثيرة يقوم بها الإنسان من خلال الذكاء الاصطناعي
سيظل الذكاء الاصطناعي تابعًا للذكاء الإنساني، ومحتاجًا بشدة لكل ما يختلف به الإنسان عنه، من طاقات هائلة، وقدرات طبيعية؛ مثل الإلهام، والموهبة، والوعي الذاتي بالأنا، والفطرة الإبداعية.
إنّ ما يجب أن نركز عليه، مجتمعيًا، هو الاهتمام بإمكانيات الذكاء الاصطناعي وألا نقع في دائرة التوجس والتخوف. فالواقع أنّ الذكاء الاصطناعي يعزز قدرات الإنسان ويطوّر إمكانياته. ولا يمكن أن يكون كذلك إلا لكونه تحت السيطرة البشرية تمامًا، فهو امتداد لقدرات الإنسان، وإن ما يمكن أن يبتره من أعمال ومهام أو تطورات محتملة، يعوّضها بشكل قوي... ذلك أنّ امتدادات التكنولوجيا تعوّض مبتوراتها.
ومن ثم فالذكاء الاصطناعي يوازن، عمليًا، بين ما يعطله وبين ما يقدّمه. فإذا ما تعطلت أو ألغيت مهن ووظائف بشرية معينة، ستكون هناك مهن ومهام كثيرة يقوم بها الإنسان من خلال الذكاء الاصطناعي، وسيفتح له حقولًا معرفية جديدة، ومجالات للعمل والعطاء، الأمر الذي سيدفع بالإنسان إلى مزيد من الارتقاء بقدراته وإمكانياته، ويطوّر خبراته المستقبلية.
لنفصّل قليلًا في هذا النظر؛ هل من الممكن أن يقلّص الذكاء الاصطناعي مهنًا ووظائف بشرية كثيرة، دون أن يعوّض الإنسان في خسائره هذه؟!.. صحيح أنّ كثيرًا من المهن التي تعتمد على الطاقة البشرية ستتعرّض لمزاحمة الذكاء الاصطناعي، ويحل محلها، وستُلغى وظائف بشرية عديدة يطالها تهديده الآن... على سبيل المثال لا الحصر: المهن التشغيلية التي ترتبط بإدخال البيانات، والمهام الإدارية كالحفظ والتوثيق وفحص المستندات. وكذلك الأدوار التحليلية الأساسية، والتصاميم المبدئية، ووظائف الترجمة، وبعض مهام الكتابة خاصة التحرير الصحفي، والتصوير الفوتوغرافي الروتيني. أيضًا في مجالات الصناعة والإنتاج والتسويق والدعاية والترويج وبعض أعمال المصارف والسفر. مثلًا، ما يتعلق بخطوط التصنيع والتجميع، والبيع بالتجزئة، والتسويق عبر الهاتف، ووكلاء السفر، وصرافي البنوك، وأمناء الصندوق، ومعالجي القروض. وكذلك، بعض الأعمال الاستشارية في الهندسة والتقنية والقانون والصحة والتمريض والتجارة...
لكن الوظائف التي تتطلب الإبداع الإنساني، والتكيّف الناجم عن تقدير المواقف والشعور الحدسي البشري الفطري، فهذه بعيدة عن المساس الاصطناعي. ولا شك أنّ التميز البشري في جل أعماله يعتمد على مبتكراته وإبداعاته أولًا، ثم يأتي الإبداع الآلي.
يقدّم الذكاء الاصطناعي أنشطة جديدة لتحديث الخبرات والتفكير بشكل إبداعي
ومع ذلك، هناك وظائف ستزدهر من خلال تطورات الذكاء الاصطناعي، مثل الوظائف المتقدّمة للتقنيين، ومهندسي الذكاء الاصطناعي، وخبراء البيانات، والرعاية الصحية بأنواعها. وسيفتح آفاقًا جديدة في التعليم والتدريب. وستظهر المهن والوظائف الجديدة في هندسة الأنظمة الذكية، ومهارات البرمجة الفائقة، خاصة الوظائف التي تتطلب فهمًا عميقًا للّغات الحاسوبية، والرياضيات، ونظريات الذكاء الاصطناعي. إلى جانب وظائف مطوّري الألعاب القائمة على الذكاء الآلي.
وأيضًا، يقدّم الذكاء الاصطناعي أنشطة جديدة لتحديث الخبرات والتفكير بشكل إبداعي، سواء في لغات البرمجة أو الهندسة أو قواعد البيانات والمعرفة الغامضة، وخبراء الأمن السايبري، وتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد للأعضاء البشرية، والروبوتات الجراحية، والتشخيص بالذكاء الاصطناعي.
كذلك، وظائف جديدة في الطاقات المتجددة، يراها الخبراء ستبرز مع تزايد الوعي بالتغيّرات المناخية وضرورة الحد من الانبعاثات الضارة. مثلًا، ستكون هناك وظائف مهندسي الطاقة المتجددة، ومستشاري الاستدامة، ومطوّري مشاريع الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح. وستبرز منصات التعلّم الذاتي، والتي أخذت لتوها في الانتشار عبر الإنترنت، لتطوير مهارات الاستخدام، والقيادة الآلية، وأدوات إدارة المشاريع، ومهارات التكنولوجيا المساعدة مثل البرمجيات التي تساعد على تحسين الإنتاجية.
المشكلات الأخلاقية التي قد يتسبب فيها الذكاء الاصطناعي هي أساسًا تدخلات بشرية صرفة
ألا نرى توازنًا مهنيًّا مُرْضيًا، بل ومشجعًا على تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، فالتعويض الآلي للحضارة الإنسانية كبير جدًا.
تبقى المشكلات الأخلاقية!.. التي قد يتسبب فيها الذكاء الاصطناعي، مثل اختراق المواقع والأنظمة الإلكترونية المختلفة، وسرقة المعلومات، وانتهاك الخصوصية، والاحتيال، واحتكار مسار التفاعل، والتحيّز، وتفضيل فئات معينة على أخرى، وانتحال حسابات وشخصيات مزيّفة، إلخ.. كل هذه هي أساسًا تدخلات بشرية صرفة؛ تتطلب تعزيز سبل الحماية الإلكترونية، وضمان السلامة والوقاية، بسن القوانين والتشريعات اللازمة، وتنفيذها بصرامة، ضد كل من يتسبب في مثل هذه الأضرار.
(خاص "عروبة 22")