لا يبدو أن إسرائيل في وارد القبول بالوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة قريبا. فالتصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو في الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، في 4 أغسطس 2024، توحي بالعكس، وتُنبِئ بأن إسرائيل حريصة على تبني السياسة المتشددة نفسها التي تسعى من خلالها إلى نقل مركز الحرب من غزة إلى الأطراف ممثلة في إيران ولبنان واليمن والعراق، على نحو يتوافق مع حسابات ومصالح نيتانياهو.
هنا يفرض السؤال التالي نفسه: لماذا تصر إسرائيل على تبني هذه السياسة المتشددة؟. الإجابة تكمن في أن نيتانياهو والائتلاف اليميني الحاكم يرى أن ذلك يتوافق مع مصالحهم الضيقة. إذ إن نقل مركز الحرب من غزة إلى الأطراف يوفر لهم مزيداً من الوقت للتهرب من الجهود الحثيثة التي تبذلها قوى عديدة، في مقدمتها مصر، من أجل الوصول إلى وقف لإطلاق النار، وإنهاء المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني في القطاع.
هنا، فإن الحديث السابق عن أن نيتانياهو يتعرض لضغوط من جانب حلفائه في اليمين الحاكم من أجل عدم إبرام هذا الاتفاق على نحو يوحي بأن لديه رغبة في إبرامه في حين أن حلفاءه يهددونه في حالة إقدامه على ذلك، لم يعد يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن رئيس الوزراء يتماهى مع هذا التوجه المتشدد بدرجة كاملة، بدليل تصريحاته الأخيرة في الاجتماع الأسبوعي للحكومة.
وفي رؤية نيتانياهو وحلفائه، فإن الوصول بالتصعيد العسكري مع إيران إلى هذا المستوى يضع الأخيرة أمام مأزق الخيارات المحدودة. فإما أنها سوف ترد على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها، في 31 يوليو الفائت، وبالتالي تخدم مصالح نيتانياهو وحلفائه في عرقلة جهود الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، واستقطاب مزيد من التعاطف والدعم الدولي، على نحو قد يتجاوز ما حدث خلال الهجمات التي شنتها إيران ضد إسرائيل في 13 أبريل الماضي، عندما شاركت ثلاث دول غربية في التصدي لها.
وإما أنها سوف تتجنب الخيار العسكري المباشر ضد إسرائيل، وبالتالي تضع نفسها أمام الداخل والخارج في صورة العاجز عن حماية ضيوفه، ومن ثم حلفائه، والرد على الاختراقات الأمنية المتكررة لأراضيه.
هنا، تنتقل الكرة إلى ملعب إيران ووكلائها. فالغالب أن هذا المحور سوف يرد على كل الضربات النوعية التي تعرض لها في الفترة الماضية، بداية من الهجمات الإسرائيلية على ميناء الحديدة اليمني، في 20 يوليو الماضي، مرورا باغتيال القيادي العسكري في حزب الله فؤاد شكر في 30 من الشهر نفسه، وانتهاء باغتيال إسماعيل هنية في طهران بعد ذلك بيوم واحد.
وفي رؤية هذا المحور، فإن تكلفة عدم الرد ربما تكون أعلى بكثير من الرد نفسه. فالسكوت على تلك الضربات معناه تآكل، وربما انتهاء معادلة الردع مع إسرائيل التي تم بناؤها على مدى سنوات، وربما عقود واستنزفت موارد كثيرة عسكرية واقتصادية، وبما يسمح للأخيرة بالعمل على توجيه ضربات مستمرة له، بغية إضعافه وإنهاكه.
لكن هذا الرد المحتمل لابد أن يراعي محظورين، في رؤية هذا المحور. أولهما، ألا يتسبب في اندلاع حرب شاملة في منطقة الشرق الأوسط، يبدو في أمس الحاجة إلى تجنبها في الوقت الحالي، وربما في الأوقات الأخرى، في حين تسعى إليها حكومة تل أبيب بشكل واضح. وثانيهما، ألا يؤدي ذلك إلى انخراط الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أكبر في هذه الحرب، على نحو قد يدفعها إلى شن ضربات عسكرية داخل إيران نفسها، وبما يضاعف من حدة المأزق الذي تواجهه حاليا.
من هنا، يمكن القول إن إيران تبدو حاليا معنية بإجراء عمليات حسابية على الأرض لتبيان التكلفة والعوائد الخاصة بهذه الضربة المضادة، فضلاً عن دراسة الخيارات المتاحة أمامها في هذا الصدد، والتي تتمثل في خيارات ثلاثة محتملة: أولها، أن تقوم وحدها بتنفيذ تلك الضربة، ربما بشكل «أسرع» و«أكثر قوة» من تلك التي قامت بشنها ضد إسرائيل في 13 أبريل الماضي رداً على القصف الإسرائيلي الذي أدى إلى انهيار القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل القيادي في فيلق القدس محمد رضا زاهدي، في أول الشهر نفسه.
وثانيها، أن يتم تنفيذ هذه الهجمات بالتوازي بين إيران والميليشيات الموالية لها، على أساس أن الأخيرة بدورها تعرضت لضربات إسرائيلية نوعية في الآونة الأخيرة. وثالثها، أن تشن هذه الهجمات في توقيتات متباينة.
المهم في ذلك كله، أن القضية الأساسية، والخاصة بإنهاء الحرب في غزة، سوف تتوه وسط هذا الزحام من الضربات والضربات المضادة. ومن دون شك، فإن ما يزيد من خطورة ذلك هو أن كل طرف من أطراف التصعيد الإقليمي الحالي يسعى إلى توظيفها بما يخدم مصالحه وحساباته بصرف النظر عن تداعيات ذلك على الشعب الفلسطيني نفسه. فإسرائيل تستغل الحرب في غزة لتصفية حساباتها مع خصومها في المنطقة. في حين تسعى إيران إلى استغلال موقفها من الحرب لاستحصال مكاسب في ملفات أخرى قد تكون أكثر أهمية بالنسبة لها. ويبقى في النهاية القول بأن كل ما يحدث يثبت وجاهة وأهمية السياسة التي تتبناها مصر التي تضع القضية الفلسطينية على قمة أولوياتها، وتبذل ما في وسعها لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني.
(الأهرام المصرية)