إلا أنّ إيران التي تحارب إلى جانب الفلسطينيين العرب في غزّة، تحارب ضد العرب في باقي المشرق وربما الخليج، الأمر الذي دفع البعض إلى الارتماء المذل في أحضان إسرائيل. وإذا لم تدرك إيران الإسلامية أنّ صب النار على التباين المذهبي بين السنّة والشيعة يقسّم المنطقة الإسلامية قسمة واضحة وذات استمرارية، فإنّ الشرخ العربي - الإيراني سيزداد ولن يكون ذلك في صالح أي من الطرفين.
لبّ أزمة العرب أنهم يقفون عراة سياسيًا وعسكريًا أمام الحلف الإسرائيلي - الغربي
لا شك في أنّ تغيير توصيف الصراع من كونه عربيًا - إسرائيليًا إلى فلسطيني - إسرائيلي، دلالة واضحة على استقالة الأنظمة العربية، وكذا النظام الإيراني من الإطار القومي أو الإسلامي للقضية الفلسطينية وتقليصها أو تحجيمها إلى حركة وطنية عادية. كانت " القضية" تشمل لا كل فلسطين فحسب، بل كل أهداف النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر. أما اليوم فقد انحصر الصراع لدى هذه الأنظمة بالضفة الغربية وغزّة مقابل الاستسلام التام أمام اسرائيل والاعتراف بها كنقطة ارتكاز وسط العالمين العربي والإسلامي.
إن لبّ أزمة العرب في صراعهم الوطني الفلسطيني والقومي العربي أنهم يقفون عراة سياسيًا وعسكريًا أمام الحلف الإسرائيلي - الغربي حيث لا يستطيعون موازنة هذا الحلف بحلف جدي آخر قد يسمح لهم بالتوصل، أقله، إلى شيء من الردع المتبادل يعطيهم هامش حركة أكبر مما يقربهم من مستوى مقبول من توازن القوى. أما وضعهم، ومنذ الحرب العالمية الأولى، فهو موقف العاجز عن تغيير ميزان القوى الإقليمي، على الرغم من حصولهم، عند بعض المنعطفات، على تأييد سياسي عالمي لا يُترجم فعليًا؛ لأنّ الغرب أُعطى إسرائيل عمليًا، ودونًا من باقي دول العالم، إعفاءً شاملًا وواضحًا من القانون الدولي، الأمر الذي وصل الآن إلى حد التساؤل عن جدوى عمل المنظمات الدولية وفعاليتها تجاهنا في الأمم المتحدة، وفي العالم العربي نفسه بما في ذلك المنظمات التعليمية والإغاثة الإنسانية.
أما القادرون والمالكون لقرار محاسبة إسرائيل، أقلّه على توحشها، فإنهم يوفّرون لإسرائيل مظلة عسكرية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية تجعلها في منأى عن أي حساب، وهم لا يريدون القيام بذلك جديًا؛ لأنّ لإسرائيل - التي لا تشبه إلا نفسها - وظيفة في الإقليم هي وظيفة تدمير أي محاولة عربية للنهضة وللتحرر والاستقلال الفعلي وكذلك لإبقاء العدو المتفوق مركز تخويف لكل قيادة وطنية إذا حاولت كسر هذا التفوق أو تخفيض مستواه. لذلك، فأي خلاف بين إسرائيل والغرب ينتهي بالمصالحة ويكون عابرًا. أما المظاهرات والاحتجاجات التي يقوم بها الشباب الغربي في أوروبا وأميركا ضد سياسات بلادهم وسياسات إسرائيل الحيوانية، فلا يبدو أنها تؤثر في مراكز القرار الرسمي التي تعامل هذه الاحتجاجات، في أفضل الاحتمالات، وكأنها خطابات تلقى في زاوية "هايد بارك" اللندنية، ولا تؤخذ فعليًا بعين الاعتبار.
المجمع المالي الإعلامي العسكري الصهيوني ناشط من شرق أوروبا إلى غربها ومن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ
إن هذه الهوة بين الرأي العام الغربي وسياسات حكوماته التي كانت واضحة بشكل غير مسبوق في الأشهر الماضية، تثير أكثر من علامة استفهام حول نوعية الديمقراطية الغربية ومدى استجابة القيادة السياسية للقاعدة الشعبية، وهي أقرب إلى ما يسمى بـ"الديمقراطية المزيفة" (façade democracy) وتجعلنا أقرب إلى تصديق ارتباط القرار الغربي فيما يخصنا بالمجمع المالي – الإعلامي - العسكري - الصهيوني الناشط من شرق أوروبا إلى غربها، ومن المحيط الأطلسي في الشرق إلى المحيط الهادئ في الغرب. فكيف يمكن لرئيس جمهورية فرنسا مثلًا أن يصر على تحويل تفاهة أنّ "معاداة الصهيونية أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية" إلى قانون جمهوري نافذ؟ وكيف يمكن لألمانيا أن تجعل اعتراف الأفراد بإسرائيل شرطًا لحصولهم على جنسية بلاد بسمارك؟ هنا نكرر ما ذكره معلّق عربي من أنّ "فداحة الأمر أنّ المأزق ليس سياسيًا مهمًا تعددت أو اختلفت أسماؤه، جمهوري، ديمقراطي، ليبرالي...، بل هو أخلاقي"، بل يعكس حالة نفسية غريبة هي مزيج غريب من عقدة نقص تجاه اليهود وعقدة تفوق تجاه العرب في الوجدان الأوروبي. وفي بعض الحالات هو مشهد إغريقي من مآسي النفس البشرية التي لا حدود إلى ما يمكن أن تصل إليه من كراهية الآخرين.
أختم بما ذكرته إحدى الصحف المصرية أنّ لطفي واكد، أحد ضباط ثورة 23 يوليو/حزيران 1952، ومدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر لفترة، تحدث مرة في حضور الرئيس المصري، حسني مبارك، عن ضعف أداء جامعة الدول العربية، فأجابه مبارك: "سيبوها متصلّبة على ما ييجي وقت يسمح بأداء قوي. الأمريكان مش عايزين جامعة من أصله".
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")