تقدير موقف

في مواجهة التبعية الراهنة

في عقد الستينيات من القرن الماضي، انطلق فريق من مفكري العالم الثالث يطرحون أسئلة معتبرة عن أسباب الإخفاق التنموي وديمومة التخلف لكثير من دولهم التي حظيت بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية. أخذًا في الاعتبار أنً عددًا غير قليل من هذه الدول قد أسست لقاعدة إنتاجية صناعية وطنية متميّزة.

في مواجهة التبعية الراهنة

نتج عن طرح الأسئلة إجابات معتبرة وعميقة شكلت ميلاد مدرسة التبعية التي استطاعت أن تقدّم تفسيرًا تاريخيًا مركّبًا متعدد الأبعاد شارك في بلورته الكثير من المنظّرين مثل: أندر جوندر فرانك، وسمير أمين، وإنزو فاليتو، وفرناندو كاردوسو، وإيمانويل والرشتاين، وسلسو فرتادو، وغيرهم حول ما يمكن أن نطلق عليه "متلازمة الإخفاق التنموي - والتخلف المستدام"؛ التي عانت منها الكثير من دول العالم الثالث.

خلق الاستعمار روابط تضمن له استمرار الدول التي استعمرها في مَده باحتياجاته الأساسية وأن تظلّ أسواقًا لإنتاجه

اتسم هذا التفسير المركّب بدراسة متعددة الأبعاد تناولت الآتي:

أولًا: دراسة العلاقة الجدلية بين الداخل الوطني والخارج العالمي سياسيًا ومؤسسيًا.

ثانيًا: التحليل الطبقي الداخلي وعلاقة طبقات الداخل بالرأسمالية العالمية.

ثالثًا: مدى التشابك بين النظم الاقتصادية للدول النامية والنظام الاقتصادي العالمي.

رابعًا: دراسة المسار التاريخي لاقتصادات دول العالم الثالث في الفترة الاستعمارية وما بعدها.

خامسًا: علاقة التشكيلات الاجتماعية في الدول الأطراف في شتى القارات بالتشكيلات الاجتماعية في المركز الرأسمالي.

ومن أهم ما خلصت إليه الدراسات المتعددة الأبعاد والمستويات هو أنّ هناك تشوهًا بنيويًا قد لحق بالبنى الاقتصادية والطبقية إبان فترة الاستعمار قد خلق روابط تضمن له استمرار الدول التي استعمرها في مَده باحتياجاته الأساسية، وأن تظلّ أسواقًا لإنتاجه، معتمدًا في ذلك على طبقات وآليات اقتصادية تحول دون التنمية الذاتية المستقلة وتُعطّل عملية التصنيع ومن ثم تضمن التبعية وتجعل التخلف مصيرًا محتومًا.

ساهمت، إذن، مدرسة التبعية مبكرًا في الكشف عن سر "متلازمة الإخفاق التنموي - التخلف المستدام"؛ ما كان له الأثر في انطلاق الدعوات إلى تصويب المسارات التنموية لدول العالم الثالث/الجنوب/الأطراف؛ وذلك بضرورة تجنب التبادل التجاري غير المتكافئ، حسب فرانك، وإلى الأهمية القصوى لفك الارتباط بين المركز (الرأسمالي) والأطراف (دول العالم الثالث الساعية إلى التنمية)، حسب سمير أمين، وإلى ضرورة التأسيس لنظام اقتصادي عالمي جديد يراعي التكافؤ والشراكة في الحصول على الموارد بصورة عادلة، حسب إسماعيل صبري عبد الله.

كما استطاعت مدرسة التبعية أن تشرح تفصيلًا سر العلاقة العكسية بين نمو الشمال وتخلف الجنوب، ولماذا أخفقت سياسة إحلال الواردات بالتصنيع، ولماذا تعثرت تجربة التصنيع الناصرية بالرغم من أنها استطاعت أن تؤسس لتنمية مستقلة، ولماذا يسود الركود - في الأغلب على حساب النمو - الكثير من الدول،..، إلخ، وبالتالي التفكير الجدي لتأسيس نموذج تنموي مستقل قدر الإمكان.

بيد أنّ كل ما سبق قد تمت مواجهته بالمزيد من التبعية، من خلال الإعصار الذي اجتاح العالم في سنة 1980 بالأخذ بالليبرالية الجديدة واقتصاد السوق انطلاقًا من الوعد بـ"تساقط الثمار"؛ إذ سيصفى غنى الأغنياء، وتدريجيًا ظاهرة الفقر، وبفعل الغنى المتزايد يتزايد الثمار وتزيد فرص العمل. في هذا الإطار نشطت المؤسسات الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات، والاحتكارات الكبرى، في ظل تقدّم تقني يسّر التدفقات المالية عبر القنوات الرقمية والمضاربات و"الاستحواذات" الرأسمالية التي جددت عمليات النهب التاريخية التي قامت بها الرأسمالية العالمية بتيسيرات من نخب الليبرالية الجديدة المحلية التابعة.

والنتيجة أن اتسعت الفجوة أكثر فأكثر بين الأغنياء والفقراء. وتعرضت البشرية للا مساواة غير مسبوقة في التاريخ، وأزمات اقتصادية متكررة، والأخطر على الإطلاق هو عودة التنافس الإمبريالي مجددًا بين الغرب الأطلسي التاريخي وبين الشرق الإمبراطوري الصاعد.

تتكوّن الإقطاعية الرقمية من ملّاك العالم الرقمي الذين يعملون على التمدد الدائم

استنفر ما آلت إليه أحوال مواطني الكوكب جيلًا جديدًا من علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة إلى تأمل ودراسة "التبعية الراهنة مجددًا"؛ من خلال استعادة التفكير وفقًا لنظرية التبعية التي تأخذ بالعامل التاريخي في مقاربتها وهو أمر حتمي لمعرفة وإدراك ماذا جرى للنظام الاقتصادي العالمي بعد عقود من الأخذ بالليبرالية الجديدة من جهة، كذلك التحولات البنيوية المجتمعية والطبقية، وأثر القفزة التقنية الرقمية في تشكل بنية اجتماعية ذات سمت إقطاعي بات يطلق عليها الإقطاع الرقمي؛ أو (التكنولوجي حسب الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس)، إقطاع أشبه بالإقطاع القديم الكلاسيكي الذي يتكوّن من ملّاك الأرض والفلاحين. حيث تتكوّن الإقطاعية الرقمية من ملّاك العالم الرقمي الجديد - في المركز الرأسمالي بطبيعة الحال - الذين يمتلكون الفضاء الرقمي في عمومه ويعملون على التمدد الدائم له من خلال ضخ المال والاستثمارات بلا سقف. وستكون الدول الأطراف بطبيعة الحال مساحة ممتدة يمارس فيها الإقطاع الجديد حكمه. ومن ثم تتجدد سيطرة المركز على الأطراف، ولكن لا يمنع أن يكون هناك "منتفعون" من "الأجراء": الخبراء أو المشغلين للمنظومة الرقمية... ما سيشكل حالة من العبودية أو التبعية الجديدة.

ويستوجب ما سبق، إعادة النظر في طبيعة رأسمالية الأطراف، طبيعة الدولة ودورها وانحيازها، مدى قدرة الهياكل الاقتصادية والاجتماعية الوطنية/المحلية في إبداع نموذج وطني تنموي مستقل وحقيقي لكل المواطنين، وقبل ذلك كيف يمكن تفعيل قدرتها على الاستقلال، كذلك الاهتمام مجددًا بدراسة أسباب التخلف وعوامل استمراريته، كيف يمكن إطلاق الإبداع والتفعيل والسيطرة على العمليات الإنتاجية في الاقتصادات الوطنية، وكيفية تهيئة السياقات الاقتصادية/الاجتماعية المحلية المختلفة من أجل تمكين الرأسماليات الوطنية كي تراكم رأس المال مع مراعاة عدم استغلال الطبقة العاملة، وكيف يمكن التصدي للطبقات والشرائح المحلية التابعة التي تعمل لحساب المركز الرأسمالي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن