اقتصاد ومال

دولة الرعاية.. عبء اقتصادي أم ضرورة اجتماعية؟ (1/2)

دولة الرعاية أو دولة الرفاه، مفاهيم متقاربة تطورت منذ نهاية القرن التاسع عشر بالموازاة مع تطور المدارس الاقتصادية الكلاسيكية، تقوم على إسناد مجموعة من الأدوار والمهام ذات البعد الاجتماعي للدولة إلى جانب أدوارها التقليدية، كحفظ الأمن والقضاء والتشريع وغيرها، وهي أدوار تتعلق أساسًا بتوفير الخدمات الصحية والتعليمية، وتوفير الدعم للفئات المعوزة والفقيرة، رغبةً في تقليص الفوارق الطبقية وحفظ السلم الاجتماعي وتحقيق التنمية، وهو ما عملت معظم الدول العربية منذ خمسينيات القرن الماضي على إدماجه في سياستها العامة، بهدف إحداث قطيعةٍ مع الفترة الاستعمارية وتحقيق توزيع عادل للثروات بين مختلف أفراد المجتمع، وتسريع النمو الاقتصادي عبر الاستثمار في تطوير الموارد البشرية وتحقيق الرفاه.

دولة الرعاية.. عبء اقتصادي أم ضرورة اجتماعية؟ (1/2)

لقد اجتمعت مُعظم الدول العربية على تبنّي هذه المفاهيم، ولكن وفق مقاربات تحكّمت فيها بشكل كبير الخلفيات الأيديولوجية، فالسياسات الاجتماعية في مصر والجزائر وليبيا والعراق وسوريا أفردت مساحات كبرى لتدخّل الفاعل الحكومي، وِفق مقاربة استحضرت عددًا من مبادئ التدبير الاشتراكي للسياسات العمومية، حيث استأثرت الحكومات بتدبير كل الخدمات الاجتماعية وأقرت الطابع المجاني (التعليم - الرعاية الصحية...)، إلى جانب عملها على تعزيز القدرة الشرائية من خلال دعم عدد كبير من المواد الاستهلاكية الأساسية وإحداث أنظمة معاشات، استفادت بشكل كبير من الدعم الحكومي خلال العقود التي تلت استقلال معظم هذه الدول، وهو توجهٌ جعل الدعم والمجانية في متناول عموم مواطني هذه الدول دون تمييز طبقي.

لم تفلح معظم الحكومات العربية في إقرار توازن مالي ينأى بها عن مخاطر تفكيك المنظومة الاجتماعية القائمة على الدعم

وإن كانت الطفرة النفطية قد ساعدت دولًا عربية كالعراق وليبيا والجزائر على المضي في تنزيل سياساتها الاجتماعية دون تفعيل خاصية الاستهداف المباشر، فإنّ بعضها الآخر، كمصر وكذلك تونس والمغرب ذات التوجه الليبيرالي المُعلن واجهت صعوبات جَمّة على مستوى التمويل، بالنظر إلى افتقارها للموارد المالية وضعف استدامتها؛ وهو ما بدا جليًا خلال نهاية السبعينيات وبداية ثمانينات القرن الماضي، حين اضطرت هذه الدول أمام تعاقب الأزمات الاقتصادية والسياسية والمناخية إلى مراجعة توجهاتها الاجتماعية، عبر تبني سياسات تقشفية فرضت تقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والتفكيك التدريجي لأنظمة دعم الأسعار، إلى جانب تبني خصخصة الاقتصاد وتحرير الخدمات العمومية، وهو ما تسبّب في اندلاع موجة من الاضطرابات الاجتماعية في مصر نهاية السبعينيات، وفي المغرب وتونس وكذلك الجزائر خلال الثمانينيات والتسعينيات، الأمر الذي فرض تعليقًا مؤقتًا لهذه الإصلاحات والتوجه نحو تبني مقاربات جديدة تكفل تحقيق التوازن المالي والاستقرار الاجتماعي.

أمام محدودية الإنفاق الاجتماعي تدنت جودة الخدمات العمومية خاصّة ما يتعلق بالتعليم والرعاية الصحية

على الرغم من الجهود المبذولة طيلة عقدي الثمانينات والتسعينيات، لم تفلح معظم الحكومات العربية في إقرار توازن مالي ينأى بها عن مخاطر تفكيك المنظومة الاجتماعية القائمة على الدعم الحكومي، وهو ما فاقم العجز المالي لهذه الدول التي تراجعت قدرة بعضها على تدبير هذه القطاعات، أمام تعاظم النفقات الاجتماعية وضعف الموارد المالية، وتضاعف الطلب على الخدمات الاجتماعية عقب الارتفاع الديموغرافي المهول الذي شهدته معظم الدول العربية، خاصة مصر ودول المغرب العربي.

وأمام محدودية الإنفاق الاجتماعي تدنت جودة الخدمات العمومية بشكل كبير، خاصّة ما يتعلق بالتعليم والرعاية الصحية، في حين شارفت بعض صناديق التقاعد على الإفلاس نتيجة اختلال أنظمتها المالية وسوء توظيف احتياطاتها الاستثمارية واستشراء الفساد.

لقد كانت هذه الأوضاع مرة أخرى سببًا في تفاقم مظاهر البؤس والفقر والحرمان لدى شرائح مجتمعية واسعة، واندلاع موجة جديدة من الاضطرابات الاجتماعية خلال العقد المنصرم، سَرَّعَتْ تهاوي عدد من الأنظمة وتعقيد المشهد السياسي العربي، كما دفعت باتجاه مراجعة السياسات الاجتماعية بشكل جوهري.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن