لأول مرّة منذ تأسيس الدولة العبرية عام (1948) تطرح الأسئلة الكبرى نفسها على نحو متصاعد ومعلن حول قدرتها على البقاء.
الشرخ الأول؛ تصدّع قوة الردع، التي تتبناها دولة الاحتلال كمكوّن جوهري في نظرية أمنها، ضد كافة أشكال المقاومة الفلسطينية.
كانت معركة جنين كاشفة لمدى التدهور الذي لحق بالردع الإسرائيلي، فقد صمد مخيم صغير في مساحته ومحدود في تسليحه أمام ألف من قوات النخبة الإسرائيلية مدججين بالعربات المدرعة والجرافات والطائرات.
إذا ما تصدّعت قوة الردع أو اهتزّت ثقة الرأي العام الداخلي فيه، يهتزّ الأمن الإسرائيلي
بدا الفشل ذريعًا في حسم المعركة. لا أنهيت المقاومة المسلحة في المخيم الفقير ولا خفتت المخاوف الأمنية الإسرائيلية.
استغرقت خطة اجتياح المخيم عامًا كاملًا، وضبطت تفاصيلها مرة بعد أخرى بما يستجد من معلومات استخباراتية، غير أنّ النتائج خالفت الرهانات الإسرائيلية.
إذا ما تصدّعت قوة الردع، أو اهتزّت ثقة الرأي العام الداخلي فيه، يهتزّ الأمن الإسرائيلي ويدخل المجتمع الاستيطاني في حيرة التساؤلات حول مستقبله.
الشرخ الثاني؛ الأخطر والأفدح، المدى الذي وصل إليه الانقسام المجتمعي الحاد على خلفية إقرار تعديلات تشريعية انقلابية انتقصت بفداحة من صلاحيات المحكمة العليا.
منذ نشأة الدولة العبرية قبل خمسة وسبعين عامًا لم تعرف دستورًا، ولم تعين حدودًا، كل شيء ترك للسلاح وقدرته على التمدد مرحلة بعد أخرى.
لا يمكن وصف دولة ما بالديمقراطية والحكم الرشيد دون دستور يعين حدودها ويضبط العلاقات بين مؤسساتها، لكنها مع ذلك نجحت في إقناع أغلبية ظاهرة في الرأي العام الغربي أنها دولة ديمقراطية، ولديها بنية قانونية ومحكمة عليا لها صلاحيات مراقبة الأداء التنفيذي.
الآن لم يعد ممكنًا، ولو بالخداع، نسبة دولة الاحتلال إلى أية ديمقراطية.
حسب ما هو منسوب للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي لا يخفى التزامه المطلق بإسرائيل وأمنها، فإنه يخشى عليها من تصرفات قياداتها، حسبما صرح الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هيرتزوج عقب عودته من واشنطن.
طبيعة المجتمع الإسرائيلي والتناقضات الكامنة فيه تدفع إلى التدمير الذاتي
الأخطر أنّ مئات من ضباط وجنود الاحتياط قرروا الامتناع عن الخدمة العسكرية التطوعية: "لن نخدم دولة ديكتاتورية"، كأن قتل الفلسطينيين وانتهاك الحق في الحياة من أعمال الديمقراطية!
تمدّد الظاهرة نفسها إلى الجيش النظامي خطر ماثل، حسبما حذّرت أعداد كبيرة من رؤساء الأركان وقادة الأجهزة الأمنية السابقين.
في محاولة للملمة الموقف المتدهور دعا رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو معارضيه إلى الحوار والتفاوض بعدما أقرّت التعديلات القضائية المثيرة للانقسام الحاد، لكنّ أحدًا لم يكن مستعدًا للثقة فيه أو بوعوده.
قد تعزى تلك التعديلات إلى أسباب شخصية حتى لا يتعرض نتانياهو لشبح السجن بتهم فساد ورشى.
الحقيقة أنّ طبيعة المجتمع الإسرائيلي والتناقضات الكامنة فيه تدفع إلى التدمير الذاتي بذريعة أو أخرى ثم تأتي بعد ذلك الاعتبارات الشخصية.
إلى أين تمضي التفاعلات؟
هذا هو السؤال الرئيسي بعدما خفتت الاحتجاجات الصاخبة.
الحقائق وحدها تتحدث.
إسرائيل باتت أسيرة لأكثر حكوماتها عنصرية وتشددًا وتعبيرًا عن جماعات المستوطنين بنزوعهم المفرط إلى العنف.
اليسار الإسرائيلي، الذي بنى الدولة، تقوض حضوره، ومراوغاته باسم السلام اختفت من فوق المسرح السياسي.
أحزاب الوسط المعارضة مختلفة ومتناقضة، لا لديها أفكار لمستقبل إسرائيل تقارب ما كانت لدى مؤسسيها، ولا تختلف كثيرًا عن اليمين الليكودي في تبنّي أعلى درجات القمع ضد الفلسطينيين بلا أدنى أفق سياسي.
أغلبية الشبان الإسرائيليين (نحو 54%) يفكّرون في الهجرة العكسية
إسرائيل في حالة انكشاف غير مسبوق والشروخ العميقة تضرب صورتها أمام العالم.
لم يعد بوسعها الترويج لنفسها كـ"واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط"، ولا هناك أحد يبدو مستعدًا أن ينسبها إلى "دولة القانون" بعد إلغاء "ذريعة المعقولية"، التي كانت تخول المحكمة العليا وضع قيود على بعض القرارات الحكومية المتفلتة.
القضية لا تلخّصها التعديلات القضائية، التي تعتبرها حكومة نتانياهو خطوة أولى تاريخية في سلسلة من التعديلات التالية، بقدر ما يلخّصها الانقسام الحاد في المجتمع الإسرائيلي على خلفية ما أطلق عليه الانقلاب التشريعي.
نحن أمام مجتمع منقسم على نفسه لا يعرف تعريفًا توافقيًا لطبيعة الدولة، مؤسساته العسكرية والأمنية معرّضة للتصدّع وسيناريو الحرب الأهلية غير مستبعد حسب الإسرائيليين أنفسهم.
حسب استطلاعات الرأي العام فإن أغلبية الشبان الإسرائيليين (نحو 54%) يفكرون في الهجرة العكسية تحت ضغط عدم اليقين بأنّ في إسرائيل مستقبلًا يطمئن إليه.
التوسّع في الاستيطان وقضم أراضٍ جديدة من الضفة الغربية والمضي قدمًا في تهويد القدس والتهجير القسري للفلسطينيين من بيوتهم وتهديد سلامة المسجد الأقصى، سيناريو آخر مرشّح أن يتصدّر الحوادث فيما قد يحدث غدًا.
الانفجار الكبير آتٍ لا محالة، ومستقبل إسرائيل بين قوسين كبيرين
أحد المخارج المحتملة لتخفيف وطأة المأزق الوجودي الإسرائيلي الذهاب إلى حرب ما.
حسب نتانياهو: "دعوا السياسة جانبًا وركّزوا على أمن إسرائيل"، سياسة التخويف نفسها من "العدو الفلسطيني والعربي المشترك"، التي حملته إلى موقع الحكم.
أخطر علامات المأزق الوجودي الإسرائيلي انغلاق الأفق السياسي، لا حلّ الدولتين له محل من واقع، ولا الدولة الواحدة "دولة لكل مواطنيها"، مطروح في دولة تقوم على الفصل العنصري.
بالنظر إلى التوازن السكاني في فلسطين التاريخية بين العرب واليهود فإنّ الانفجار الكبير آتٍ لا محالة، ومستقبل إسرائيل بين قوسين كبيرين.
(خاص "عروبة 22")