تُعد أولى التحولات وجود أطراف إضافية تشارك في هذه الاجتماعات كمراقبين لم يكونوا ضمن الحاضرين في الجولة الأخيرة التي عُقدت بين طرفي الحرب بجدة، أبرزهم الأمم المتحدة ومصر والامارات، ويكتسب وجود القاهرة وأبوظبي أهميته لكونهما الطرف الإقليمي الأكثر مقدرة على التأثير على طرفي الحرب بناءً على حجم الثقة التي يتمتعان بها لديهما.
ما يعضض محورية الدور المصري والإماراتي هو التقدّم الكبير للمباحثات غير المعلنة بالعاصمة البحرينية المنامة بين الجيش والدعم السريع بمشاركة الدولتين وكل من السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والبحرين، واتفاق الجيش والدعم السريع على إتفاق للمبادئ العامة في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي قبل أن يتعرض للتقويض بسبب الأجواء الداخلية بعد تسريبه والتحريض عليه من مناصري حزب الرئيس السابق عمر البشير – الذين يعدون أبرز داعمي الحرب - بإستغلال التطورت الميدانية وتراجع شعبية الجيش بعد إنسحاب قواته من عاصمة ولاية الجزيرة (مدني) في التاسع عشر من ديسمبر 2023 وهو ما اعتُبر تقاعسًا وإنسحابًا غير مبرر، ما أتاح للدعم السريع السيطرة عليها بكل يسر دون مقاومة.
مثّلت المشاركة الإماراتية التحدى الأكبر خلال ترتيب إجتماعات جنيف خاصة بعد وصول العلاقات بين أبوظبي والجيش السوداني مرحلة غير مسبوقة من التراجع تجاوزت الهجوم اللفظي من مساعد قائد الجيش الفريق أول ركن ياسر العطا ووزارة الخارجية لتقديم ممثل الجيش في مجلس الأمن شكوى رسمية تضمنت إتهامات عنيفة للإمارات، إلا أنّ المداولات والنقاشات خلال تلك الجلسة شهدت تعليقات أكثر عنفًا من ممثل الجيش بالامم المتحدة، وبالتوازي فإنّ رد أبوظبي على تلك الشكوى فند الاتهامات وكشفت معلومات عن طلبات تسليح قدمها قائد الجيش لأبوظبي خلال زيارته لها قبل أقل من شهرين من إندلاع الحرب.
نجحت تحركات إقليمية عديدة في إذابة جبل الجليد ما بين بورتسودان وأبوظبي بلغت ذروتها بزيارة رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد واللقاء المغلق الذي جمعه مع قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان ليحدث الاختراق الكبير بترتيب المكالمة الهاتفية بين الرئيس الاماراتي محمد بن زايد مع البرهان وكان هذا الإتصال بمثابة الضوء الأخضر للموافقة على الوجود الإماراتي في جنيف، في ما اعتبر مراقبون حجب أجزاء من مقابلة مساعد قائد الجيش الفريق أول ياسر العطا بثها التلفزيون السوداني وحوت إساءات للرئيس الإماراتي بمثابة تأكيد على حرص البرهان على تجنب كل ما يمكن أن يعكر الأجواء مع أبوظبي قبل لقاء جنيف.
يُعد تأسيس مباحثات جنيف على ما تم الإتفاق عليه في جدة خلال جولاتها المختلفة سواء من ناحية الأطراف بإقتصارها على طرفي الحرب ممثلين في الجيش والدعم السريع، واستكمال ما تم الاتفاق عليه بجدة أو إستكمال تفاصيل بعض القضايا الفنية المتبقية أبرزها الجوانب المرتبطة بتكوين قوات مراقبة وقف إطلاق النار ومواقع الارتكازات الأمنية داخل المدن للطرفين، بارقة أمل في حال الوصول لاتفاق حولها بما يتيح صياغة اتفاق لوقف إطلاق نار مراقب بقوات على الأرض يستفيد من نقطة ضعف تجارب هدن مباحثات جدة التي كانت أبرز نقاط ضعفها غياب الرقابة على الأرض.
إنّ إقتصار المباحثات على طرفي جدة، واقتصار الأجندة على الشق الخاص بوقف إطلاق النار، يترتب عليه تقليل مخاوف وقلق الجيش والدعم السريع، فالأول يخشى من توسعة الأطراف على طاولة المباحثات بحيث يجد عليها غريمه القوى السياسية والمدنية المتحالفة في تنسيقة القوى الديمقراطية المدنية "تقدّم" برئاسة رئيس الوزراء دكتور عبدالله حمدوك، في ما يخشى الدعم السريع من وجود وفد الجيش تحت مظلة حكومة السودان وهو ما يجعله سياسيًا طرفًا أقل درجة من خصمه.
تحقق المباحثات محددة الأطراف ومعروفة القضايا قدرًا من القبول والطمأنينة لطرفي المباحثات وحتى للمدنيين الغائبين عنها ممن تطاردهم هواجس ومخاوف تكرار تجربة غياب القوى السياسية والمدنية عن مفاوضات طرفي حرب جنوب السودان عبر منبر الايقاد (يوليو2002 - يناير 2005) التي أفضت لإتفاق سلام قسّم السلطة والثروة بين الطرفين المتحاربين وكرّس السلطة عندهما في الشمال والجنوب، وأدى مستقبلًا لتنظيم إستفتاء إختار فيه جنوب السودان الانفصال رسميًا كدولة مستقلة عن الدولة الأم في يوليو 2011. لعل مصدر الإطمئنان الحالي نابع من كون هذه المباحثات تقتصر على الجوانب العسكرية ولا تشمل الشق السياسي وهذا الإقتصار يبعث بالطمأنينة للأطراف المدنية والسياسية خاصة "تقدّم" وهو ما يجعلهم أكثر دعمًا لهذه المفاوضات ويوسّع قاعدة قبولها وسط المدنيين والعسكرين على حد السواء.
يبقى العامل الأكثر تأثيرًا هو المرتبط بتراجع مساندة قطاعات واسعة من الرأي العام لاستمرار الحرب مقارنةً بالشهور الأولى بسبب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية على السودانيين لكون هذا الموقف الداعم للحرب إستند لإمكانية حسمها السريع لمصلحة أي من طرفي الصراع ومحدودية رقعته وإقتصاره على الخرطوم فعليًا، وهو ما سهّل تعبئة الرأي العام ضد الهدن التي أقرّتها مباحثات جدة.
بالنظر للواقع الحالي نلحظ وجود تحوّلات دراماتيكية بعد تمدد الحرب لمناطق غير متوقعة، فمنذ ديسمبر الماضي سيطرت قوات الدعم السريع على عاصمتين من عواصم ولايات وسط السودان الأربعة (مدني / ديسمبر 2023) و(سنجة / يونيو 2024) وكان ينظر لها كملاذات أمنة وبعيدة عن تهديدات الحرب، مع عدم إغفال الآثار الإقتصادية الناتجة من الحرب بمخاطر المجاعة في دارفور وكردفان والخرطوم ووسط السودان بعدما تأثرت الزراعة بسبب الحرب وما نتج عنها من زيادة مخاطر المجاعة، حيث أدت جميع هذه العوامل مجتمعة لتنامي الموقف الشعبي الرافض للحرب والمنادي بوقفها.
تمثّل كل هذه المعطيات متغيّرات تصب لصالح مباحثات "جنيف" عند مقارنتها بالظروف والمعطيات المصاحبة والمرتبطة بمباحثات "جدة" وهو ما قد يعزز فرص بلوغ السلام، يضاف إليها الوجود والحضور الإقليمي والدولي الرفيع الذي يمثل إطارًا راغبًا في إنهاء الحرب، إلا أنّ الوصول للسلام يرتبط بشكل أساسي بالرغبة الحقيقية لطرفي الحرب في وضع حد لها بعد جرد حسابها المثقل بالخسائر البشرية والمادية والمعنوية لأنّ فقدان أي منهما للإرادة والشجاعة الكافية لوقف الحرب سيجعل من "جنيف" فرصة جديدة لسلام مهدر وضائع.. وحينها سيكون على السودانيين الإستمرار في سداد فواتيرها الباهظة بمزيد من الأرواح والأموال وإهدار سنوات جديدة غير معلومة بين النزوح واللجوء.
(خاص "عروبة 22")