ما استوقفني هنا هو قدرُ العنصرية، والفوقية، والتسييس الذي بدأ جليًا في مواقف لشخصيات عامة، ومسؤولين حكوميين، فيما أصبح، فجأة "قضية"، عنوانها "إيمان خليف"؛ بائعة الخبز الجزائرية التي أتت لنا بالذهبية من عاصمة المستعمر السابق "باريس".
الدوافع "الكامنة" لما جرى لإيمان - المتهمة بلا تحقيقٍ أو أدلة - لا يختلف كثيرًا عن ما جرى في "ساوث بورت" على الناحية الأخرى من بحر المانش من اتهام كاذب، يُحمّل "الآخر"؛ المهاجرين، مسؤولية مقتل الصغيرات البريطانيات الثلاث. ورغم أن لا أساس من الصحة لمثل ذلك الاتهام سابق التجهيز، لم يكن من الغريب أن يصدّقه العنصريون/المستقطبون؛ الجاهزون فكريًا لمثل تلك الاتهامات. فكان أن انتشر، رغم كذبه كالنار في الهشيم، وكان ما شاهدناه على الشاشات من اضطرابات وصدامات عمت شوارع بريطانيا (العظمى)، المثقلة بتاريخها الاستعماري الحافل باستخدام العنف حيال أجداد أولئك المهاجرين، وإن كان أيامها في أوطانهم وبيوتهم وبلدانهم الأصلية. قبل أن يتطهر بريطانيو اليوم من استعماريتهم، فيخرجوا إلى الشوارع مدافعين عن تنوع ديمقراطيتهم أمام أولئك الشوفينيين الجدد.
لا يهتم المتعصبون العنصريون كما الديماجوجيون بأن تكون أكاذيبهم منطقية المهم أن تكون الأعلى صوتًا
لم يكن مفاجئًا طبعًا أنّ الذين اتخذوا موقفًا سبقت عنصريتُه العودةَ إلى المعلومات الصحيحة في مسألة إيمان، هم أنفسهم الذين اتخذوا الموقف ذاته من الذي جرى في الشارع البريطاني. لم يكلف أحدهم نفسه عناء التدقيق في المعلومات أو فهمها، فكانت الاتهامات المعلّبة الجاهزة التي يكمن فيها الموقف من الآخر هي الحاكمة. كذلك فعل دونالد ترامب أمام أنصاره وناخبيه، وكذلك فعل إيلون ماسك على منصته، دون تردد في الحديث عن "حربٍ أهلية".
لا يهتم المتعصبون العنصريون، كما الديماجوجيون عادةً بتدقيق معلوماتهم، أو حتى بأن تكون أكاذيبهم منطقية، المهم أن تكون الأعلى صوتًا. لذا لم يتردد السيد ترامب (كبيرهم في أيامنا هذه) في وصف الملاكمة الجزائرية بـ"الترانس"، دون أن يكلّف نفسه عناء أن يقرأ قليلًا، أو يسأل أهل العلم عن التعريف الصحيح للمصطلح الذي استخدمه (رئيس سابق، وربما قادم) بكل هذا الاستخفاف.
المفارقة أن لو كانت إيمان - إذا توافرت الضرورات الطبية الملزمة - قد أقدمت على تغيير جنسها لتصبح "ذكرًا" كما يصفها ترامب، أو السيد ماسك، أو رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة، لرجمها إعلاميًا الثلاثةُ وما يمثلونه من تيارات.
ولأنّ العنصرية مرضٌ، وإن اختلفت الأعراض والتفاصيل، لم يكن الموقف التمييزي من "الآخر" في مسألة إيمان ببعيدٍ عما بدا في باريس "الأولمبية"، بائسًا ومكررًا ومحفوظًا من حجاب أو لباس هذه الرياضية أو تلك، في تناقض فج مع كل مقولات الحرية الفردية. لا أتحدث هنا عن ما ربما يكون هناك من قوانين محددة للعبة بعينها، بل أتحدث عن مواقف اجتماعية وسياسية (سابقة التجهيز) شابت تعليقات لا تخلو من استقطاب وعنصرية.
العنصرية داء وأعراض الأمراض تتشابه عادةً وإن اختلف المصابون بها
في الأغلب لا تهتم إيمان؛ الفتاة الجزائرية البسيطة، بالسياسة كما يهتم بها السياسيون، كما لا علاقة لها بالتأكيد بجهود الكرملين لاستعادة أمجاد القياصرة، ولذا فقد يكون غريبً أن يصيبها شيءٌ من شظايا الحرب الأوكرانية. ولكن هذا ما كان. إذ في إطار الحرب متعددة الجبهات التي تشنها روسيا/بوتين على الغرب، بسبب ما يجرى في أوكرانيا، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي على مدى الأسابيع الماضية حملة تضليل واسعة، استهدفت الأولمبياد الباريسي (فرنسا/الدولة) استُخدم فيها الذكاء الاصطناعي، وأغرقت وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو (مختلقة) وملايين المنشورات عن القذارة، والتلوث، وأسراب الفئران، وغياب التنظيم.. وطبعًا "الذكور الذين ينافسون في بطولات النساء". بل ووصل الأمر إلى احتكاك في مجلس الأمن! (نعم هو ذاته المفترض أنه المعني أصلًا بقضايا الأمن والسلم الدوليين)، بين المندوب الجزائري والمندوب الروسي الذي أراد أن يغمز الغرب من قناة الفتاة الجزائرية. بربكم هل هناك سياسة، أو تسييس للمسألة أكثر من ذلك.
من فضلكم لا تستغربوا أن يتشابه موقف المندوب (الروسي) مع موقف ترامب (الأمريكي)، فالعنصرية داء. وأعراض الأمراض تتشابه عادةً وإن اختلف المصابون بها.
حديثهم المغلوط في "جنس" إيمان لم يكن وراءه غير الموقف الاستعلائي من "العرق" الذي تنتمي إليه
يبقى من قبيل الأمانة الواجبة، مع شعور أوجب بالخزي والأسى أن لا نتجاهل أنّ الموقف الاستعلائي من "الآخر"، في مسألة إيمان (بائعة الخبز الجزائرية) لم يكن في كل مظاهره أبيض صرفًا، أو غربيًا استعماريًا وحسب، بل امتدّت الآفة إلى وطنها وأوطاننا ذاتها، وإن حكمها هذه المرة أمراض الذكورية، والطبقية، والجاهلية. إذ لم تسلم الفتاة، ذات الملامح الصارمة الحادة من تندّرٍ وتنمّرٍ معيبين اجتاحا وسائل التواصل الاجتماعي عندنا كاشفين عن أمراض مجتمعية عضال رغم موروث ثقافي من المفترض أنه يحفل بقيم المساواة واحترام ضروري للعلم وتفهّم الآخر (حتى في المسألة الجندرية بالمناسبة).
وبعد،،
فقد لا يكون معظم الذين تنمّروا على بائعة الخبز الجزائرية، التي جاءت للعرب بذهبية غالية يعرفون اللغة العربية، وهم قطعًا لا يعلمون أنّ لفظة "الجنس"، وتُجمع على "أجناس" قد تعني ضمن ما تعنيه من مترادفات ومفاهيم في معاجم لغتنا الثرية الجميلة مفهوم "العرق"، بمعنى الأصل، أو المجموعة البشرية التي ينتمي إليها هذا أو ذاك. ربما لا يعلمون لغويًا ذلك، ولكن يبدو أنّ حديثهم المغلوط في "جنس" إيمان لم يكن وراءه غير الموقف الاستعلائي من "العرق" الذي تنتمي إليه. يا لها من مصادفة "لغوية".
(خاص "عروبة 22")