لاشك أن حرب غزة واستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ومسألة الدعم الأمريكي لإسرائيل تعد إحدى القضايا الحاسمة والمؤثرة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وفي حدة التنافس بين دونالد ترامب وكامالا هاريس.
يأتي خطاب هاريس المتوازن حول حرب غزة في سياق محاولة ترميم الشروخات التي حدثت بفعل سياسة بايدن في الدعم المطلق لإسرائيل خلال الأشهر العشرة الماضية، التي أدت لتزايد المعارضة الداخلية له خاصة من قبل الشباب والاتجاه اليساري في الحزب الديمقراطي, كذلك المعارضة من جانب الأقليات مثل العرب والمسلمين وقطاع أيضا مهم من الناخبين المستقلين، وكل هؤلاء رفضوا سياسة بايدن واعتبروا أنها أعطت الضوء لحكومة نيتانياهو في استمرار العدوان على غزة ووقوع هذا العدد الكبير من الضحايا والذي تجاوز 40 ألف شهيد فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال, وهو ما شكل تهديدا له في تراجع فرص الفوز في الانتخابات خاصة في الولايات المتأرجحة، وعلى رأسها ميتشجان التي يلعب الصوت العربي والإسلامي فيها دورا حاسما.
ولذلك سعت هاريس إلى انتهاج سياسة متوازنة تجاه الحرب في غزة، تقوم على انتقاد تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة وسقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، وهو ما أوضحته خلال لقائها نيتانياهو في أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن حيث أشارت إلى أنه من الصعب الصمت تجاه معاناة أهل غزة وطالبت بوقف الحرب. لكن هذا الموقف من جانب هاريس يأتي فقط لاعتبارات انتخابية ويستهدف استقطاب أصوات المعارضين لسياسة بايدن لدعم موقفها الانتخابي في مواجهة ترامب في اشتداد حدة المنافسة بينهما، لكنه لا يعبر عن تحول حقيقي في سياسة هاريس تجاه إسرائيل وتجاه الحرب في غزة.
فتصريحات وخطاب هاريس يركز فقط على المسار الإنساني وضرورة تخفيف معاناة سكان غزة، لكنه لم يترجم إلى سياسات واضحة وحاسمة بشأن ضرورة وقف الحرب في غزة، كما أنه ليس لديها رؤية واضحة بشأن مسألة حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية في حالة فوزها في الانتخابات. كما أن هناك حدودا لهاريس فيما يتعلق بالضغط على حكومة نيتانياهو لوقف الحرب، فهي لا تريد إغضاب اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل، كما أن أي ضغط على حكومة نيتانياهو أو انتقادها سيوظفه ترامب انتخابيا ويتهمها بعدم الدعم الكافي لإسرائيل.
وبالتالي في ظل الفترة القصيرة المتبقية على الانتخابات تحاول هاريس مسك العصا من المنتصف ومحاولة إرضاء الجميع، لكن هذه السياسة قد تؤدي بها إلى خسارة الجميع, خاصة التناقض بين الأقوال والأفعال. فمن ناحية تطالب هاريس بوقف الحرب وتخفيف المعاناة الإنسانية، ومن ناحية أخرى مستمرة في دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا واقتصاديا كنائبة للرئيس، وهذه كانت إحدى إشكاليات سياسة بايدن، ومن ثم فإن مواقفها المائعة تجاه مسألة وقف الحرب على غزة قد يؤثر سلبيا على فرص فوزها في الانتخابات.
أما ترامب، ورغم أنه الأكثر دعما لإسرائيل ولنيتانياهو، فهو أيضا يحاول اتخاذ موقف متوازن لاعتبارات انتخابية، فهو من ناحية يغازل اللوبي اليهودي والمؤيدين لإسرائيل بتأكيده أكثر من مرة دعمه لإسرائيل وعلى أنه لو كان موجودا لما حدثت عملية طوفان الأقصى، ومن ناحية أخرى يغازل المعارضين لسياسة بايدن واستمرار الحرب بأنه سيسعى لوقف الحرب فورا، وتحقيق السلام عبر القوة وفقا لرؤيته. وعلى خلاف سياسة الديمقراطيين المائعة والمتناقضة، فإن ترامب لديه سياسة أكثر وضوحا وحسما فيما يتعلق بالحرب في غزة وهو أكثر قدرة في الضغط على نيتانياهو لوقف الحرب ودفعه نحو السلام.
وفي المقابل فإن نيتانياهو يسعى لتوظيف المشهد الانتخابي الأمريكي واستغلال المزايدة السياسية بين الحزبين, الديمقراطي والجمهوري, لدعم إسرائيل لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية له ولائتلافه المتشدد للبقاء في الحكم لأطوال فترة ممكنة والحصول على مزيد من الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الأمريكي سواء من جانب إدارة بايدن الحالية أو من المرشحين ترامب وهاريس في حالة فوز أي منهما. نيتانياهو يدرك أن بايدن خلال الأشهر المتبقية له في الحكم أصبح كالبطة العرجاء لايستطيع أن يمارس ضغوط حقيقية على الحكومة الإسرائيلية لدفعها نحو المفاوضات والتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى، ووقف الحرب أو منع التصعيد الإقليمي، وذلك حتى لا يغضب اللوبي اليهودي أو يؤثر سلبيا على فرص هاريس في الفوز.
كما ان نيتانياهو يدعم عودة ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض، ولذلك يسعى لإطالة أمد الحرب والتصعيد في المنطقة لإحراج بايدن وهاريس وإفشال أي فرص للتوصل إلى اتفاق عبر إستراتيجية مكررة وهي التجاوب الظاهري مع الضغوط الأمريكية للانخراط في المفاوضات والتوصل إلى اتفاق استنادا لخطة بايدن، وكذلك لاستيعاب ضغوط أهالي الأسرى الإسرائيليين وإظهار أنه حريص على استعادتهم، لكنه عمليا يفشل المفاوضات عبر وضع شروط تعجيزية دائما، فكلما كان هناك اقتراب من حل القضايا العالقة والتوصل إلى اتفاق، كما حدث بعد البيان الثلاثي المصري/ الأمريكي/ القطري، يضع نيتانياهو شروطا جديدة أو يتجه لمزيد من التصعيد بما يدفع الفصائل الفلسطينية لرفضها، ثم يروج نيتانياهو بأن المسئول عن إفشال الصفقة هو المقاومة الفلسطينية، بينما هو المسئول الأول عن تعثر المفاوضات. كما أن ميوعة الموقف الأمريكي الحالي هو من يشجع حكومة نيتانياهو على الاستمرار في خيار التصعيد وانتهاج سياسة حافة الهاوية التي سيدفع ثمنها الجميع.
(الأهرام المصرية)