من ملف النزوح، تتفرّع 3 عناوين محورية، تبدأ من ازدواجية المعايير الغربية، وتمرّ بالأعباء المتزايدة على دول الجوار، ولا تنتهي بموقف النظام نفسه الذي يسعى إلى استثمار "العودة" وربطها بملفات أخرى أبرزها "إعادة الإعمار".
أوروبا تريد إبعاد "قنبلة" النزوح والهجرة عن أراضيها... ولا تمانع انفجارها في دول أخرى
توقف الكثيرون عند التناقض الواضح في السياسات الأوروبية حيال ملف الهجرة والنزوح، بين مطالبة القرار الأخير الصادر عن البرلمان الأوروبي بإبقاء النازحين السوريين في لبنان ومعارضة إعادتهم إلى وطنهم، وبين المفاوضات التي يخوضها الأوروبيون أنفسهم مع العديد من الدول، أبرزها تونس، لوقف موجات الهجرة باتجاه أوروبا!
وقد شكّل "مؤتمر روما" للهجرة والتنمية التطور الأبرز في هذا المجال، لا سيما وأنّ عنوانه الأساس كان البحث في خطوات مواجهة تدفق الأعداد المتزايدة من المهاجرين إلى دول الاتحاد... ما يعني أن الدول الأوروبية تبحث في كيفية تفادي نقل "قنبلة" النزوح والهجرة إلى أراضيها، لكنها لا تمانع انفجارها في دول أخرى!
لبنان "فيه ما يكفيه"... والأردن وتركيا "ترفعان الصوت"
في هذا المجال، بات ملف النزوح يشكل خطرًا داهمًا على الدول التي تستضيف العدد الأكبر من النازحين السوريين، الأمر الذي يدفعها إلى رفع السقف عاليًا من أجل المطالبة بحلول عاجلة.
في الصورة العامة، يظهر التركيز على الواقع اللبناني، على اعتبار أنّ هذا البلد "فيه ما يكفيه" من ملفات خلافية بين مكوناته المحلية، مع العلم أنّ تركيبة هذه الدولة ذات الطابع الطائفي، تعطي أزمة النزوح أبعادًا أخطر تتخطى الواقع الإقتصادي، لتصل إلى حد التحذير من أن الكيان نفسه بات مهددًا. وهو ما دفع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، خلال مؤتمر روما، إلى المطالبة بوضع خطة لإعادة النازحين إلى بلدهم ومساعدتهم على الأراضي السورية.
وعلى الضفة الأخرى من المشهد، كان ملف النزوح السوري حاضرًا بقوة خلال الحملات الإنتخابية التركية، في الأشهر الماضية، بحيث كان من أبرز العناوين التي تُخاض على أساسها المنافسة الانتخابية، سيّما وأنّ السنوات الأخيرة كانت قد شهدت تصاعد حدة التوترات بين الأتراك والسوريين على خلفية الواقع الإقتصادي، وصولًا إلى تجديد الحكومة التركية حملتها للتضييق على النازحين، في مدينة إسطنبول خصوصاً، تحت عنوان "ارتكاب المخالفات".
ما ينطبق على الواقع التركي، ينطبق أيضًا على ذلك القائم في الأردن، حيث عمدت السلطات الرسمية إلى "رفع الصوت والسقف" بحثًا عن كيفية الوصول إلى حلول تقود إلى إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم. وهذا الملف، إلى جانب ملف "تهريب المخدرات" من سوريا إلى الأراضي الأردنية، كان العنوان الأبرز لزيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الأخيرة إلى دمشق. مع العلم أن عمّان، التي أعلنت عدم قدرتها على تغطية الفجوة الناجمة عن تقليص المساعدات التي تقدم إلى النازحين، باتت تراهن على "الحل العربي"... الذي لا يزال يواجه الكثير من العقبات.
النظام السوري يستفيد من "هدايا" الغرب... "والتغيير الديمغرافي" قائم
لكن قبل ذلك وبعده، لا يمكن النظر إلى ملف النزوح بمعزل عن موقف النظام السوري الحقيقي منه، وعن التطورات الميداينة وما أفرزته من تغييرات ديمغرافية على الأرض السورية. ففي السنوات الماضية، ونتيجة الدعم العسكري الذي حصل عليه من الجانبين الروسي والإيراني، لم يعد النظام يجد نفسه مهدّدًا ميدانيًا، ولا يبدو أنه في وارد تسهيل عودة النازحين من دون الحصول على "ثمن ما"، ولو بصورة غير مباشرة، يقايض من خلاله "العودة" بإعادة الإعمار ورفع العقوبات الاقتصادية عنه، خصوصًا تلك التي ينصّ عليها "قانون قيصر" الأميركي.
وفي حين كانت دول الجوار، لا سيما منها الأردن ولبنان، تراهن على عودة العلاقات العربية مع سوريا، من أجل تسهيل معالجة ملف النازحين، يبدو أن النظام السوري يستفيد، بشكل مباشر وغير مباشر، من الموقف الغربي للتشدد أكثر في موقفه. وبالتالي هو لم يكن يحتاج إلى أكثر من "الهدية" التي قُدّمت له من قبل البرلمان الأوروبي، على اعتبار أن الدفع الغربي باتجاه "تسهيل عودة" النازحين كان من المفترض أن يكشف حقيقة موقفه الرافض لهذه العودة.
وهنا، قد يكون من المفيد الإضاءة على كون النظام السوري في الأصل لا يريد عودة هؤلاء، انطلاقاً من مشروع "التغيير الديمغرافي" القائم منذ سنوات، خصوصًا في العاصمة دمشق ومحيطها، بالإضافة إلى العديد من المناطق السورية الأخرى. وهو ما يبرّر علامات الاستفهام الكبيرة التي كانت تًطرح، خلال المعارك العسكرية، حول عمليات التدمير الممنهجة في سوريا، بالإضافة إلى الحرائق المشبوهة التي تندلع في أحياء دمشق القديمة، لا سيما تلك التي يُقال إن أبناءها يرفضون بيع ممتلكاتهم فيها، والتي كان آخرها ذلك الحريق المروّع الذي وقع في شارع الثورة بحي ساروجة الأثري.
بناءً على ما تقدم، يصبح من المنطقي الحديث عن أنّ المعالجة الحقيقة لهذا الملف، تتطلّب أخذ العناوين الثلاث المذكورة أعلاه بعين الإعتبار، نظراً إلى الترابط الوثيق فيما بينها... وأيّ طرح آخر لن يعني سوى إستمرار الواقع على ما هو عليه، مع ما يعنيه ذلك من استخدام هذا الملف كـ"ورقة تفاوض" أو "ورقة ضغط"، بيد النظام أو القوى الأخرى، بعيدًا عن متطلبات معالجة الواقع الإنساني الذي من المفترض أن يكون هو الأساس في مقاربة أزمة النزوح.
(خاص "عروبة 22")